وقتٌ مستقطَعٌ

أمسكت الظّرف بين يديها وأخذت تقلّبه دون أَن تفتحه إنّه يحمل مراسلة رسميَّة. ما عساها تكون يا ترى؟ لا تعلم! ولكنَّها حتمًا تحملُ خبرًا سارًّا. 

كانت تشعر بتعبٍ شديدٍ. إِنَّها مرهقة تمامًا. تكاد تنهار من الإِجهاد بعد ماراتون العمل الذي اجتازته. 

أَخذت نفسًا عميقًا وأَجالت بصرها في مكتبها وتذكَّرت أَوَّل قدوم لها لهذا المكان.. 

لم تَنم تلك الليلة. كان خبر تعيينها في منصبٍ مرموقٍ في ذلك المستشفى العالميِّ قد قلب كيانها وبعث فيها نشاطًا غير قابل للنَّفاد فباتت تتنقَّل بين غرف شقَّتها كفراشةٍ.. فلا تكاد تطأ الأَرض بقدميها الراقصتين. لقد ظلَّت تُطارد هذا الحلم لسنواتٍ وها هي أخيرًا تظفر به. إِنَّها ترتفع في سلِّم النَّجاح بنسقٍ مُجهدٍ ولكنّه ممتعٍ حدّ الثّمالة. ولقد تعلَّمت من نجاحاتها الفارطة أَنَّها يجب أَن تستمتع بكلِّ لحظةٍ من هذه اللحظات فشعلة الإِثارة تخبو سريعًا. 

في صباح الغد وقفت أَمام مرآتها. بدت مثاليَّة في ذلك الطَّقم الأَبيض النّاعم البسيط وقد صفَّفت شعرها بعنايةٍ ورقيٍّ لا أَصباغ صاخبة ولا مجوهرات.. تمامًا كما تحبّ. ابتسمت لصورتها ابتسامةً راضيةً وغادرت. 

كانت متوتِّرة ولكنَّها كانت قادرة على إِخفاء ذلك وإِظهار العكس. استقبلها المدير بحرارةٍ وانبهارٍ باديين وقادها إِلى مكتبها. جلست على الكرسي المريح وأَلقت برأسها إِلى الخلف وهي تتذكَّرُ كلَّ المحطّات التي قادتها إِليه.. ساعات الدِّراسة المُضنية، تضحيتها بكلِّ أَنواع المتع التي كان زملاؤها يحيطون أَنفسهم بها.. كلّ الخروجات والرّحلات والضّحكات والأَفلام والحفلات التي فوَّتتها. وكلُّ الأَعياد والمناسبات العائليَّة.. حتّى أًنَّها لم تحضر وفاة أُمِّها التي عانت طويلًا من المرض والأَلم حيث كانت في بعثةٍ تكوينيّةٍ هامَّةٍ جدًا خارج البلاد وعادت بعد دفنها بيومين. لم يسامحها والدها على ذلك أَبدًا خاصَّةً بعد أَن أَعلمه أُخوها أَنَّه كان في إِمكانها الحضور لو أَرادت. 

تذكَّرت أَيضا العمل الشّاق المُضني وتقرُّبها إِلى مرؤوسيها ومصادقة البائسين منهم وثقلاء الظّل وطاعة أَوامرهم دون نقاش وخسارتها لبعض زملائها في سبيل ذلك. لقد استهلكت الكثير من نفسها حتّى تصل إِلى هذا الكرسي وحتّى تُثبت جدارتها في عالمٍ قاسٍ متوحِّشٍ غيرِ عادلٍ. 

لكن.. لا أَهميَّة اليوم لكلِّ ذلك ها هي ذا. 

صحيح إنّها ارتبكت قليلا عندما انتبهت إِلى أَنَّها لا تعرف لمن ستزفّ هذا الخبر ومع من ستحتفل بهذا الإِنجاز. ولكنَّها تعوَّدت منذ مدَّة على أَن تحيط نفسها بذراعيها عندما تفرح وعندما تبكي. 

كان من الممكن أَن تتَّصل بوالدها وتخبره بنجاحها ولكن نبرة الحزن التي تغلِّف كلَّ كلماته التي يوجِّهها إِليها منعتها. خاصَّةً وأَنَّها لم تكن تلاحظها أَثناء مخاطبته لأُختها مثلًا أَو حتّى لأَخيها الذي لم يكن أَكثر منها بِرًّا على أَيَّة حالٍ. ابتسمت نصف ابتسامةٍ وهي تذكر نظرة أُختها المتعالية الباردة اللّائمة دومًا. وابتسمت أَكثر عندما فكَّرت في أَنَّ شعورها بالرضا ذاك ما كان ليكون لولا المبلغ الذي تضعه هي بسخاء كلَّ شهرٍ في حساب والدها والذي لولاه لما تمكَّن هو من عيش شيخوخةٍ مريحةٍ إِلى تلك الدَّرجة ولما تمكَّنت هي من لعب دور الابنة البارَّة الجيِّدة إِلى ذلك الحدِّ. 

أَغمضت عينيها وحرَّكت رأسها يمنةً ويسرةً وكأًنَّها تريد طرد تلك الصور من ذهنها. 

 ما من شكٍّ أَنَّ أَخاها سمع بالخبر فهما يعملان ضمن نفس المجال ومثل هذه الأَخبار تنتشر كالدُّخان ولكنها واثقةٌ أَنَّه سيتجاهلها تمامًا كما يفعل دائمًا.. فيما عدا خلال بعض اللقاءات الرَّسميِّة حيث كان يمسك يدها ويقبِّلها قبلةً خفيفةً ويمنحها ابتسامةً ودودةً حفاظًا على مظهره وسط الزُّملاء.. هو لا يرتاح لها ولا يريد ربط أَواصرَ حميميّةٍ معها كما أَخبرها ذات يوم بصوت كالجليد.. لأَنَّ نمط عيشها لا يعجبه.  تمنَّت حينها أَن تخبره أَنَّها تعرف أَسماء كلِّ عشيقاته وأَنَّها على علمٍ بكلِّ ممارساته المشبوهة في مجال عمله ولكنَّها عدلت عن الفكرة فهي ليست من النَّوع الذي يستمتع بمثل هذه الانتصارات التّافهة. 

خلال جولتها في المستشفى وتعرُّفها إِلى أَفراد الطّاقم الذي سيعملُ معها شعرت بمزيجٍ من الفرح والرَّهبة إِنَّها تجرِّب شعور الإِدارة لأَوَّل مرَّةٍ ولقد درست بشكلٍ دقيقٍ الشَّخصيَّة التي ستظهر بها بينهم. لن تكون متعاليةً ولا ودودةً.. لا قاسيةً ولا رحيمةً.. لا جديَّةً ولا مرحةً.. سوف تصعِّب عليهم تصنيفها وبالتّالي لن تمكِّنهم من سبيلٍ إِليها.  

ولكن هي يجب أَن تصنِّفهم سريعًا كي تضع خطَّة التَّعامل معهم في أَقرب وقتٍ 

كانوا مُريحين بشكلٍ عامٍّ لا مميّزات واضحة في شخصيّاتهم مبدئيًّا. لم تلتقط إِشاراتٍ نرجسيّةً أَو استعراضيّةً أَو عدوانيّةً أَو تسويقيَّةً وهذا مُبشِّرٍ بالخير. بمجرَّد تقديم الفريق إِليها حام اهتمامها حول أَحدهم دون سببٍ واضحٍ.. كان رجلًا وسيمًا دون شكٍّ ولكن ليس إِلى درجة لفت انتباهها بذلك القدر، وجدت نفسها تنظر في اتجاهه مرّات متتالية و – تقريبًا – دون إِرادة منها ممّا أَزعجها بشكلٍ كبيرٍ. كان متوسِّط الطّولِ يميل إِلى سمرةٍ خفيفةٍ مُحبَّبةٍ أَنيقًا تمامًا في سروالٍ وحذاءٍ أَسودين وقميصٍ رماديٍّ.. شعره ناعمٌ مصفَّفٌ إِلى الوراء. ملامح وجهه محدَّدةٌ بخدَّين بارزين وشفتين ممتلئتين بعض الشَّيء وأَنفٍ دقيقٍ. كان في مثل عمرها أَو ربَّما أَصغر بسنواتٍ قليلةٍ 

لم تعهد نفسها يومًا مُهتمَّة إِلى هذه الدَّرجة بمظهر رجلٍ ما. لماذا تتصرَّف بهذا الشَّكل العجيب؟ أَلأَنَّها متوتِّرةٌ ولم تنم منذ ساعاتٍ طويلةٍ؟ لم يكن هذا يحصل وهي مستلقيةٌ على شاطئ البحر أَو جالسةٌ في مقهى تحتسي مشروبًا.. فهل يحصل الآن في أَشَّد اللحظات حرجًا وأَهميَّةً في مسيرتها المهنيَّة؟! 

عرفت أَنَّه المسؤول عن الممرِّضين. بدا هادئًا بشكل عامٍّ لا يتكلَّم كثيرًا ولكنَّ كلَّ ما قاله كان مركَّزًا وذكيًّا. 

كانت تلتهم ملامحه وكلماته وحركاته وكأَنَّ تكوين فكرةٍ تقريبيَّةٍ عنه هو أَهمُّ أَولويَّةٍ في حياتها الآن. طردت هذه الفكرة من رأسها وأَقنعت نفسها بأَنَّها مشوَّشةٌ فقط وأَنَّها ستستعيد توازنها بعد حين.  

لكنَّ ما حصل في الأَيَّام والأَسابيع الموالية كان أَسوأ بعد.. لم تكن تتوقَّف عن البحث عنه بعينيها طيلة فترة تواجدها في المستشفى وكلُّ حواسِّها تتنبَّه لمجرَّد ذكر اسمه.. ممّا جعلها تجمع بعض المعلومات عنه. كان أَعزبًا لا يمتلك منزلًا ويمتلك سيّارةً صغيرةً يقضي بعض مساءاته في بارٍ قريبٍ من منزله مع بعض أصدقائه ويُقيم علاقاتٍ عابرةً مع بعض النِّساء. لقد أَهدرت الكثير من الوقت والجهد لتجمع هذه المعلومات دون أَن تثير الرّيبة أَو الانتباه. 

تنامى شعورها بالغضب بسبب عدم قدرتها على السَّيطرة على الوضع. يبدو فعلًا أَنَّها أَبقت نفسها لفترةٍ طويلةٍ جدًا بعيدةً عن عيش علاقةٍ مع رجلٍ. 

لم يكن للرجال وجودٌ حقيقيٌّ وبارزٌ في حياتها كان تواجدهم غالبًا عرضيًّا ثانويًّا وبالصدفة المحضة.. لم تسعَ يومًا إِليهم ولم تكن شبقيَّةً مطلقًا بل كانت تهنّئ نفسها دوما على قدرتها على تجاوزهم والعيش دونهم على عكس جلِّ معارفها اللاتي كانت مراحل حياتهنَّ تتلخَّص في علاقةٍ تنتهي وأُخرى تُرتَقب أَو تبدأ.. لقد أَخرجت نفسها من هذه الدّائرة المُفرغة ووضعت لنفسها أَهدافًا أَهمَّ 

ولكن ما هذا الذي يحصل معها اليوم؟ هل يعاقبها جسدها؟ هل بدأت قدماها تستشعر منزلق التَّقدُّم في العمر؟ لا تعلم؟!  

بدأت في تسيير شؤون عملها بأَريحيَّةٍ فاجأتها هي نفسها. يبدو أَنَّ الحياة عَركتها أَكثر ممّا كانت تتصوَّر. كانت راضيةً تمامًا عن نفسها تشعر بالامتلاء التّام عندما يتحدَّث النّاس أَمامها عن منجزاتها وعمّا أَحدثته في المؤسسة من ثورةٍ عارمةٍ. هي قادرةٌ تمامًا على صنع فروقاتٍ جليَّةٍ واضحةٍ يستحيل إِنكارها أَو التّقليل من شأنها. 

في يومٍ اقترح عليها الموظَّفون حضور حفلة توديع أَحد زملائهم المُحال على المعاش. في العادة كان يُفترض أَن تعتذر. ولكنَّها قبلت الدَّعوة. 

في مطعمٍ صغيرٍ دافئٍ وجدت نفسها في زاوية الطاولة إِلى جانبه.. تكلَّموا جميعًا في مشاكل قطاعهم والسِّياسة والنِّظام العالميِّ الجديد والمشاكل الاقتصاديَّة والعولمة.. كانت تراقب يده وهي تمسك كأس النَّبيذ وتتتبّع حركتها وهي ترفعه إِلى شفتيه ووجدت نفسها تسأله فجأةً بصوتٍ خفيضٍ ودون أَدنى تفكيرٍ “هل طعم النَّبيذ جيِّد؟” بمجرَّد أَن نطقت الجملة شعرت بندمٍ شديدٍ زادت حدَّته عندما رأته يتردَّد للحظاتٍ مركِّزًا بصره في الفضاء وكأَنَّه يحاول استيعاب أَمرٍ معقَّدٍ ثمَّ قال هامسًا دون أَن يقوم بأَيَّة حركةٍ “هل أَسكب لك القليل؟” فهزَّت رأسها ممتنعةً وقالت ” أَنا نادرًا ما أَشرب ولا يكون ذلك أَبدًا في محيط عملي “فصمت قليلًا ثمَّ أَضاف “يمكنني أَن أَدعوك على كأس إِن شئت” شعرت بدوارٍ خفيفٍ وبطنينٍ في أُذنيْها.. ما كان ليقترح عليها هذا الاقتراح لولا شعوره بإِمكان فعل ذلك. وأَسباب شعوره بإِمكان ذلك هو ما يُقلقها. أَحسَّت وكأَنَّها تسير ليلًا على حافًّةٍ من الجليد تشرف على هوَّةٍ سحيقةٍ غير قادرةٍ على التَّوقف… سمعت نفسها تقول بصوت بالكاد يشبه صوتها “اتفقنا! نلتقي قريبًا”. يجب فعلًا أَن تضع حدًّا لهذه المهزلة! وربَّما لن يحدث ذلك دون لقاء. 

بعد يومين كانت جالسةً على أَريكةٍ في منزله..  

لقد جُنَّت تمامًا! كانت تتقدَّم دون تفكيرٍ ولا تخطيطٍ. بالكاد تعرفه، لا يمكنها حتّى أَن تجزم أَنَّه ليس مجرمًا ولا وضيعًا ولا مُبتزًّا.. صحيح أَنَّ ظاهره راقٍ ومُهذَّب ٌولكنَّ خبرتها في الحياة تجعلها على يقينٍ أَنَّ ذلك لا يعني شيئًا بالضّرورة. هي رئيسته في العمل وعلى الأَغلب سيعملان معًا لسنواتٍ طويلةٍ كما أَنَّهما ينتميان إِلى طبقتين اجتماعيَّتين مختلفتين جدًا. ولكن لسببٍ غير واضحٍ هي مصرِّةٌ على السَّير في هذا الطَّريق لآخره. ربَّما لأَنَّها تعوَّدت مواجهة أَسوأِ مخاوفها وجهًا لوجه.  

كان بيته صغيرًا. أَثاثه قليلٌ وبسيطٌ مقبول النَّظافة.. ولا يبدو أَنَّه بذل مجهودًا كبيرًا استعدادًا لاستقبالها كما أَنَه لم يكن مُهمِلًا تمامًا. كلُّ شيءٍ كان عاديًّا. هو نفسه استقبلها استقبالًا عاديًّا لم يتكلَّف فيه شيئًا يُذكر.. ولم تستطع أَن تميِّز إِن كان سلوكه هذا مريحًا أَم مزعجًا. كان الحديث بينهما سلسًا مُنسابًا واكتشفت بشيءٍ من المفاجأة أَنَّه يمتلك آراءً خاصَّةً في أَغلب المواضيع التي تطرقا إِليها فلم يكن يردّد الاكليشهات العامَّة أَو الأَفكار الشّائعة وكان قادرًا على إِضحاكها حقًّا لا مجاملةً. ولم يكن كثيرَ الكلام بشكلٍ عامٍّ يقول ما يقوله بأقلّ قدر ممكن من الكلمات وكان يقضّي فترات كثيرة صامتا ولم تلاحظ عليه أنّه كان يبذل جهدا يُذكر لفتح مواضيع أَو لتطوير الحوار..  يبدو أَنَّ لا مشكلة عنده ولا حرج في أَن يظلّا صامتيْن لفتراتٍ طويلةٍ. 

كان يشرب بتأنٍّ ودون أَن يعرض عليها المزيد أَو يعلِّق على أَنَّها لم تنه كأسها الأَوَّل.. لم تكن تحبّ الخمر كثيرًا لأًنَّها تثمل بسرعةٍ وذلك يزعجها. كانت منشغلةً باكتشافه.. وهي مهمَّةٌ – على ما يبدو – غير يسيرةٍ. 

كانت تعلم أَنَّ هذا اللِّقاء سيكون حاسمًا إِمّا بخيبةٍ أَو بتعاظم الرَّغبة في لقائه.. ولكن ما حصل في الحقيقة لا يُشبه الاحتمالين. هي غير قادرةٍ على تحديد أَيِّ موقفٍ أَو انطباعٍ منه ولا تعرف إِنْ كانت ستلتقيه ثانيةً أَم لا..  

ولكنَّها التقته ثانيةً وثالثةً في منزله وباقتراحٍ منها. بتعلّة شرب كأسٍ لا تشربه في النِّهاية.. كان الوقت الذي تقضيه معه مريحًا بشكلٍ لا يُصدَّق.. يجهِّز أَكلًا بسيطًا.. يتكلَّم قليلًا وقد يغفو خلال السَّهرة.. لا يتكلَّم أَبدًا عن العمل وإِذا فتحت هي موضوعًا بخصوصه يغلقه فورًا وعندما تكرَّر ذلك سألته فأجابها ببساطةٍ بأَنَّه لا يتكلَّم مطلقًا عن العمل خارج العمل وأَنَّ علاقته به تنتهي بمجرَّد مغادرته باب المستشفى، أَما هي فقد حدَّثته طويلًا وباستفاضةٍ عن إِنجازاتها ومشاكلها ومخاوفها ومشاريعها..  

لم يحاول أَبدًا تطوير العلاقة بينهما بأَيِّ شكلٍ من الأَشكال ولم يقم بأَيَّة تلميحات عاطفيَّةٍ أَو جنسيَّةٍ ولم يتَّصل بها يومًا. وفي المستشفى خلال لقاءاتهما النّادرة كان يتصرَّف معها بشكلٍ رسميٍّ 

اكتشفت بالصُّدفة المحضة أَنَّه لاعب شطرنج وأَنَّه شارك في دوراتٍ عالميَّةٍ ونال العديد من الجوائز.. اقتربت منه وبدأَت تسأَله بحماسٍ وهو يردُّ بهدوءٍ واقتضابٍ ويتحدَّث بلا أَيَّة نيَّةٍ في الاستعراض أَو الفخر عن انجازاتٍ تستدعي الاستعراض والفخر وتستحقُّ حتّى تأليف سرديَّة نجاحٍ مُشرِّفةٍ ومُلهمةٍ ولكنَّه كان يكره السَّرد ولم يكن يحبّ إِضفاء أَيِّ معنًى خفيٍّ على حكاياته.  

 بدأَت تستعذبُ لامبالاته وتحبّ كسله وتغبط استمتاعه باللَّحظات التي لا يفعل فيها شيئًا.. مع أَنَّها كانت سابقًا تمقت هذه الصِّفات و -تقريبًا- تحتقر أَصحابها. 

ركَّزت بصرها على فمه وهو يحدِّثها عن آخر جائزةٍ نالها كانت تستحثّه على الكلام وتكاد تضع الكلام على شفتيه.. كانت شفتاه جميلتين مُكتنزتين مُتمهِّلتين لم تنتبه إِلا وهي تضع شفتيها عليهما.. جفل قليلًا ثمَّ بادلها القبلة فتعلَّقت بكتفيه كغريقٍ يتعلَّق بعوَّامة إِنقاذ وبدأَت ترتجفُ بقوَّةٍ.. إِنَّها تعيش اللحظة ولا تعيشها وكأَنَّها تراقب المشهد من خارجه لا تعرف نفسها ولا تدري ما يحصلُ لها. إِنَّها تختبرُ لحظاتٍ فارقةً وتشعر بشعورٍ غريبٍ تستكشفه لأَوَّل مرَّةٍ في حياتها. إِنَّها تشعرُ نحوه بما يشبه الامتنان! بينما دموعها تنهمل بغزارةٍ! أَمسكت يده وكأَنَّها تخشى أَن يبتعد ثمَّ نامت. 

جلست إِلى مقعدها ترتشف قهوتها المُرَّة وتحاول تركيز تفكيرها على الأَوراق أَمامها ولكنَّها كانت تشعرُ بضيقٍ في صدرها يمنعها من فعل أَيِّ نشاطٍ.. منذ أَيّام وهي تقاوم حالة الشُّرود هذه دون أَدنى جدوى، إِنَّها تتعذَّب باستمرارٍ، أَلمٌ خفيفٌ ولكنَّه متواصلٌ يعتصرُ قلبها ولا يُرخي قبضته ولو قليلًا.. لقد وضعت نفسها في موضعٍ غريبٍ عنها وبدت مثيرةً للشّفقة.. لقد انهارت تمامًا بين يديه.. ضعيفةٌ مسكينةٌ محتاجةٌ إِليه وإِلى وجوده بشكلٍ يائسٍ.. لن تتمكَّن من النَّظر إِلى عينيه ثانيةً وستتلعثم بالكلام إِن لمحته.. وماذا لو حدَّث الآخرين عمّا حصل؟!  

أوَ يفعل؟! إِنَّها تتصرَّف بشكلٍ مُحيّرٍ. إِنَّها تبدو حقًا مثل العواجيز الشّمطاوات الثَّريات اللواتي يصطدن علاقاتٍ عابرةً دون ذرَّة كرامةٍ. منذ متى صارت مهووسةً بالجنس إِلى هذه الدَّرجة؟! 

شعرت برغبةٍ كبيرةٍ في زيارة والدها.. أَنهت يوم العمل سريعًا وتوجَّهت إِليه وكانت ترجو في أَعماقها الدَّفينة أَن يخفض شراع الجفاء ولو قليلًا، أَن يبتسم لها بحبٍّ ويُحيط كتفيها بذراعه ويسأَلها عن حالها. كانت تسير ببطءٍ ويأسٍ إِلى المنزل. دقَّت الجرس ففتحت أُختها. بمجرِّد رؤيتها رمقتها بنظرةٍ فاترةٍ مقيتةٍ أَشعلت غضبًا مكتومًا في صدرها. لماذا تتصرَّف معها بهذا اللؤم؟ ربَّما فقط كي تتمكَّن من إِزعاجها وإِحباطها عقابًا لها على نجاحها الباهر مقابل فشلها هي الذَّريع. ودَّت لو ترمي هذا الكلام في وجهها ولكنّها تماسكت وتنفَّست بعمقٍ واتَّجهت إِلى غرفة أَبيها. قابلها أَيضًا بحزنه المعتاد ولومه المكتوم تخيَّلت للحظةٍ أَنَّها تقف وسط الغرفة تصرخ بأَعلى صوتها “لماذا تعاملني بهذا البرود؟! إِنْ كنتُ قد أَجرمت في أَمرٍ ما أَلا يمكنك أَن تسامحني؟! وإِنْ كنتَ لا تسامحني فلماذا تقبل نقودي؟! أأنا ملعونةٌ وهي طاهرةٌ؟!” ولكنَّها جلست بهدوءٍ سأَلت عن حالته الصِّحيَّة. لم تشرب القهوة التي جلبتها أُختها. بعد فترة صمتٍ ثقيلٍ وتململٍ محرجٍ وقفت للذِّهاب فسمعت أُختها تقول بشيءٍ من التَّهكِّم الخفيِّ “مبروك! سمعنا أَنَّك ترقَّيت إِلى منصبٍ مرموقٍ” فردَّت بصوتٍ خفيضٍ “شكرًا” وخرجت مسرعةً. وكأَنَّها مختنقةٌ في حاجةٍ ماسَّةٍ إِلى الأُكسيجين. ركضت -تقريبًا- إِلى سيّارتها، جلست إِلى مقعدها رأسها ملقى على يديها المعقودتين على مقود السّيارة مدةً طويلةً ثمَّ غادرت. 

 

في المستشفى.. حاولت أَن تتجنَّب رؤيته.. ولكنَّها اكتشفت شيئًا فشيئًا أَنَّ لا داعٍ لبذل أَيِّ مجهودٍ من أَجل ذلك فهو لم يظهر أَمامها ولو لمرَّةٍ واحدةٍ ولم يتَّصل.. لقد استوعب بذكائه المُرهف أَنَّه يصعب على قطَّةٍ شرسةٍ مثلها أَن تظهر أَمام أَيِّ أَحدٍ بالمظهر الذي ظهرت به أَمامه فتركها وشأنها ورمى الكرة في ملعبها. إَنَّه فطنٌ ذكيّ الفكر والقلب ويتمتَّع بحسِّ كرامةٍ عالٍ وباكتفاءٍ عجيبٍ بنفسه. 

ظلّت أَيّامًا طويلةً تخشى -تقريبًا- كلَّ إِمكانيَّةٍ للقائه. وفي يومٍ كانت تسير في الممرّ الطَّويل وجدت نفسها تتّجه إِلى مكان عمله وتفتح باب المكتب. تفاجأ عند رؤيتها وظلَّ يتأمَّل وجهها لحظاتٍ ثمَّ سرعان ما قام واستقبلها بابتسامةٍ صغيرةٍ.. كان بمفرده في المكتب فسمعت نفسها تقول “هل يمكنني أَن أَزورك هذا المساء؟”  

اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه وقال بحرارةٍ غير معهودةٍ عنده “لا شيء يمكن أَن يسعدني أَكثر من ذلك ”  

ارتجف قلبها ودون كلمةٍ واحدةٍ استدارت وخرجت. 

في لقاءاتهما الموالية كان أَكثر ودًّا واحتفاءً من المعتاد وكان يغلِّف كلماته وحركاته بعاطفةٍ غير ثقيلةٍ وغيرِ مصطنعةٍ ولكنَّها دافئةٌ غامرةٌ. لكنَّه لم يحاول مطلقًا اقتحام عالمها أَو فضائها. كان وجوده في حياتها ناعمًا كحركة فراشةٍ بين الورود. وقد أَسرها ذلك تمامًا وأَشعرها بخطرٍ داهم. إِذ لم تجد فيه ما ينفِّرها من الرِّجال في العادة. رفقته كجدول ماءٍ يسري.. لم يحاول مرَّةً الاستفادة من علاقته بها كي ينال أَيَّ مكسبٍ في العمل لم يسألها أَبدًا عن سبب ابتعادها ولم يسعَ إِلى فرض أَيَّةِ سلطة عليها من أَيِّ نوعٍ 

كانت تسافر بين الحين والحين في إِطار عملها. عند عودتها تركض نحوه ترتمي بين ذراعيه.. يغمرها نفس الشعور العجيب بالامتنان ونفس الرغبة غير المُفسَّرة في البكاء. 

لم تكن تحبّ التَّفكير في مستقبل علاقتهما فمن الواضح أَنَّ لا مجال لأَكثر ممّا هو موجودٌ بينهما الآن.. ستنقلبُ الأُمور إِلى مهزلةٍ حقيقيَّةٍ لو تجاوزت هذا الحدّ. وقد أَوضحت له ذلك في إِشاراتٍ متفرِّقةٍ. 

فبعد فترةٍ من لقاءتهما شعرت بأَنَّ نظراته صارت أَكثر عطفًا واحتفاءً وكرمًا.. وأَنَّ لمساته صارت أَكثر ودًّا ورقّةً. وفي يومٍ بعد اجتماع عملٍ مضنٍ ومُتعبٍ دخلت إِلى مكتبها فوجدت شطيرةٍ صحيّةٍ على الطّاولة. كانت منه! لم تشكّ ثانيةً في الأَمر فقد كانت تحمل بصماته ورائحته..  

لم تُسعدها تلك التطوُّرات رغم عذوبتها ورغم عدم قدرتها على مقاومة سحرها. والسَّبب الرَّئيسيُّ في انزعاجها أَنَّها لم تُرد جرحه أَو إِحزانه بأَيِّ شكلٍ من الأَشكال. وقد استغربت طويلًا من طريقة تفكيرها تلك. لأَوَّل مرَّةٍ في حياتها تنشغل بمشاعر الآخر على حساب مشاعرها وسلامه على حساب سلامها.. في العادة كانت ستتقبَّل كرم مشاعره برضا تامٍّ وكانت ستفرح باهتمامه دون لحظة تململٍ واحدةٍ. ولكنَّ هذه التَّجربة الشُّعوريَّة جديدةٌ.. ومرهقةٌ في آنٍ. 

أَمّا هو.. فمنذ أَوَّل إِشارة منها بعدم رغبتها في ارتباطٍ جادٍّ طويلٍ تراجع خطوةً ولفَّ ذراعيه خلف ظهره وعاد مهذَّبًا لطيفًا ولكنْ بعيدًا كما كان وكان ذلك السُّلوك يشبهه جدًا. فقد كان يسير في الحياة ببطءٍ وهدوءٍ وكأَنَّه يمشي على أَرضٍ ملغومةٍ ولم يكن يجد غضاضةً في التَّراجع أَو الانسحاب إِذا قدَّر أَنَّ المعركة خاسرةٌ لا محالة أَو أَنَّها لا تستحقّ المغامرة. سرعان ما يعود إِلى حدوده. 

ولكن.. مثلما أَزعجتها يداه الممدودتان الودودتان أَزعجها سحبهما. لم تعد تفهم نفسها حقًّا ولأَوَّل مرَّةٍ في حياتها تشعر بأَنَّها لا تعرف تحديدًا ما تريد.    

وفي مرَّةٍ عادت من سفرٍ طويلٍ.. اتَّجهت إِليه من المطار مباشرةً، لم يكن في إِمكانها تأجيل لقائه. لم تتوقف عن التَّفكير فيه لساعاتٍ طويلةٍ. استقبلها بعطفه الهادئ واهتمامه الصّادق البسيط غير المتكلَّف.. كانت خلال اللقاء كمن فقد الوزن فارتفع فجأةً إِلى السَّحاب بعد أَن كانت يداه وقدماه مُثقلةً بالقيود الحديديَّة.. كمن رشف قطرات ماءٍ باردةً بعد عطشٍ طويلٍ.. كمن تمدَّد تحت ظلِّ شجرةٍ وارفةٍ بعد أَن مشي ساعات في الهجير.. كمن جلس أَمام موقدٍ مضطرمٍ ممسكًا بمشروبٍ ساخنٍ وقد واجه عاصفةً ثلجيَّةً ليلًا.  

قفزت من السَّرير وهي تقول بحماسٍ “لقد جلبتُ لك هديَّةً ” أَخرجت من حقيبتها ساعة وقدَّمتها له مبتسمةً. بادلها ابتسامتها ولكن سرعان ما اختفت الابتسامة وتجهَّم وجهه عندما رأى ماركة السّاعة. ارتبكت قليلًا وقالت ببساطة “كل ما في الأَمر أَنّي أَردتُ رؤيتها على معصمك” هزَّ رأسه ووضعها جانبًا. ارتبكت أَكثر: هل جرحته؟ ألم تُحسن التَّقدير بانتقاء هذه الهديَّة؟ صحيح سعرها مرتفعٌ جدًا وقد يبلغ مجموع شهورٍ طويلةٍ من مرتَّبه. ولكنَّها لم تقصد أَيَّة إِساءةٍ. غرق في الصَّمت. غادرت منزله ثقيلة الصَّدر. يجب أَن تشرح له في أَقرب وقتٍ. لم تفهم بدقَّةٍ أَسباب انزعاجه. لذلك عليها أَن تجعله يتكلَّم كي تعرف كيف تطيَّب خاطره وتزيل تلك النظرة من عينيه. 

رغم تعبها الشَّديد لم تتمكَّن من النَّوم ليلتها، ظلَّت تتقلَّب طوال الليل وملامح وجهه المستاءة المُحبَطة تطاردها بلا هوادة. لم يعد بمقدورها التَّحمُّل. في الثّالثة صباحًا اتَّصلت به ولكنَّ هاتفه كان مغلقًا. بمجرَّد وصولها إِلى المستشفى ستدعوه إِلى مكتبها وسيتكلَّمان مطوَّلًا.. مرتاحة إِلى هذا القرار غفت قليلًا قبل أَن تستفيق فجرًا قلقةً مضطربةً 

عند وصولها إِلى مكتبها وجدت منه على الطاولة مطلب إِجازةٍ مرضيَّةٍ بشهرٍ. شهر؟! وإِعلاما بأَنَّه يسافر! هل يمزح؟ هل يعتقد أَنَّها ستوافق على هذه المهزلة وعلى هذه التَّجاوزات بالجملة؟ متى أَعطى نفسه الحقَّ في هذه العربدة؟ وهل يتوقَّع أَنَّها ستمرِّرها له ببساطةٍ بسبب ما كان بينهما؟ وهل يتصوَّر أَنَّه يعاقبها بهذه الطَّريقة؟ وعلامَ؟ يا له من أَحمق ساذج!  

على طرف الطاولة لمحت علبةً مغلَّفةً، فتحتها بيدين مرتعشتين فإِذا هي ساعتها. رمتها بعصبيَّةٍ في درجٍ من الأَدراج. وبدأَت تضحك بصوتٍ مرتفعٍ. كم هو سوقيٌّ! كيف خدعها وجعلها تتصوَّر أَنَّه راقٍ متحضِّرٌ؟ وقفت بعصبيَّةٍ.. غادرت مكتبها وبدأَت تسير في الممرِّ الطَّويل لا تعرف إِلى أَين تتَّجه. ولكنَّها توقَّفت في منتصف الطَّريق وعادت أَدراجها. دخلت إِلى مكتبها ومنه إِلى الحمّام المرفق به.. أَغلقت الباب وجلست على الأَرض وبدأَت تنتحبُ بصوتٍ مكتومٍ. 

اتَّخذت جملةً من القرارات: ستقتطع هذه الإِجازة من مرتبه. ستوجِّه له رسالة توبيخٍ وستُحيله إِلى مجلس التّأديب. يبدو أَنَّه نسي نفسه ووضعه فلتُذكِّره بهما ولتعمل على إِعادته إِلى حجمه الطَّبيعي.   

اتَّصلت به لتُعلمه برفض طلب إِجازته ولكنَّه لم يردّ. يا للوقاحة! هل يتصوَّر بأَنَّه بصددِ هجرها؟ هل يصدِّق نفسه حقًّا؟ وهل يعتقد بأَنَّه يمتلك وزنًا ما في حياتها حتّى يعاقبها بالغيابِ؟ 

يومًا بعد يوم خفتت حدَّة غضبها وحلَّ محلُّها أَلمٌ عميقٌ مقيمٌ لا يكاد يبرح. أَسقطت كلَّ قراراتها الواحد تلو الآخر وقبلت إِجازته وصمتَه وابتعادَه. يبدو أَنَّهما وصلا إِلى نهاية طريقهما. لن تنحدر أَبدًا إِلى درجة أَن تُطارده وقد اختفى عمدًا أَو تحرص على أَن توضِّح له الأُمور وقد حسم أَمره. لقد وضع نقطة النِّهاية وهي ستقلب الصَّفحة. حتّى أَنَّها بارعة جدًا في ذلك. لقد قلبت صفحاتٍ لا تُحصى على مرِّ أَيّامها لِشتى أَنواع الكتب. ولقد وصلت إِلى نهاياتٍ كثيرةٍ خلال مشوار حياتها وبعد كلِّ مفترق طرقٍ كانت تواصل سيرها حثيثًا ثابتًا مُتّزنًا إِلى الأَمام.  

بل إِنَّها تشعرُ ببعض الرّاحة لابتعاده فلم تكن راضيةً عن تخبُّطها مؤخَّرًا ولا عن خيارها في ذاته ولا عن كلِّ لحظةٍ فقدت فيها مقاليد الأُمور. لقد ارتبكت خطواتُها فعلًا وماعت أَفكارها فلم تعد قادرةً على تمييز حدودها وتداخلت مشاعرها فشوَّشت توازنها وثقتها بذاتها.   

فلينتهِ كلُّ هذا إِذًا! 

عاد إِلى العمل قبل انتهاء فترة إِجازته. لم ترَه لأَيّامٍ. وعندما صادفته تصرَّف كما يتصرَّف عادةً بشكلٍ رسميٍّ عاديٍّ وكأَنَّ شيئًا لم يحصل. أَرادت أَن تفعل مثله. لأَنَّها -على ما يبدو- كانت الطَّريقة المُثلى لمواجهة هذا الموقف وهي لا تعلم إِلى أَيِّ حدٍّ توفَّقت في الأَمر؟  

على كلِّ حالٍ! لن تندم على تلك التجربة. هي لم تندم يومًا على أَيَّة تجربةٍ فلماذا ستفعل الآن؟ 

 

مرَّت الذِّكريات في ذهنها متسلسلةً دقيقةً مُوجعةً فزادت من إِرهاق روحها. جمعت ذراعيها على المكتب وأَلقت برأسها عليهما. يدها تمسك بالظَّرف دون أَن تمتلك القوَّة لفتحه.  

 

كانت تجلس متربِّعةً على الأَريكة وكان هو مستلقيًا إِلى جانبها تحدِّثه بحماسٍ عن إِحدى رحلاتها بينما يأكل قطع الخيار التي عصر فوقها الليمون يرمقها بين الحين والحين بنظرةٍ أَو ابتسامةٍ ويتدخَّل بملاحظةٍ تجعلها تضحك طويلًا… 

 

جرس الهاتف يرنّ بإِلحاح فتنتفض من إِغفاءتها ويسقط الظرفَ من يدها تلتقطه وتجيب فإِذا هو مدير المستشفى يتساءل عن محتوى المراسلة فقد سلَّمها إِليها بنفسه.. تفضّ المُغلَّف وتقرأ “… وبعد.  فقد تمَّ تعيينكم على رأس بعثةٍ للأُمم المتَّحدة..”  تتراقص الحروف تحت ناظريها وتنهمر دموعٌ غزيرةٌ تحجب عنها الرُّؤية تمامًا.  

منذ متى صارت تتلقّى الأَخبار الجَّيِّدة بالدُّموع؟! ومنذ متى صارت بكاءّة أَصلًا؟! يبدو أَنَّها تقدَّمت في السِّنِّ فعلًا. تماسكت وخبَّرت المدير بالموضوع بصوتٍ حاولت أن يبدُوَ عاديًّا قدر المُمكن وتقبَّلت تهانيه بشيءٍ من الانزعاج وانعدام الصَّبر مُبعدةً الهاتف عن أُذنها فقد كان كلُّ حرٍف ينطق به يستفزّ الصُّداع الشَّديد الذي يفتِك بأَعصابها. نهضت من كرسيها متثاقلةً. يجب أَن تعود إِلى بيتها لتبدأ في تجهيز نفسها للسَّفر. 

قد يعجبك ايضا