فن التعايش مع المختلف

قبول التّعايش مع الآخر المختلف هو مهارة ثقافيّة رفيعة جدا.. وبعيدة جدا جدا عن سيكولوجية الإنسان البدائي.. الذي كان ينفرُ لأسبابٍ بقائيّة بحتةٍ من كل غريب وكلّ مختلف.. يشعر بالخطر والتّهديد في حضوره فيهاجمه أو يهرب منه..

وكذلك هي قيمة متعالية جدا عن المجتمعات القبليّة القطيعيّة.. التي كانت تلفظُ كلَّ مختلفٍ (فيُفرَد إفراد البعيرِ المُعبّد) لأنَّه يمثّلُ خطرا على تماسكِ القطيعِ وعلى أعرافِه وطرائقِ عيشِه وعلى السّلمِ العامِ.. فكلُّ متفرّدٍ منبوذٌ حتَّى عودته إلى الحضيرةِ الآمنة.. فيتشبّهُ بأفرادِها وينعمُ بدفءِ تراصّهم..

ثمَّ انتفضَ الإنسانُ من وضعيّةِ الصّائدِ الذي يخشى في كلِّ لحظةٍ اصطيادَه.. ومن وضعيّةِ الشاةِ في مجموعةٍ.. وقرّرَ أن يكونَ إنسانا مسؤولا عن خياراتِه وخطواتِه وكسرَ النّمطَ فتمرّدَ فنّا وعلما وفلسفة وأعادَ طرحَ الأسئلةِ حولَ كلِّ شيءٍ حوله.. واكتشفَ أنَّ الإبداعَ لا يمكنُ أن يصدرَ عن شاةٍ في قطيعٍ أو عن نحلةٍ في خليّة.. وإنّما يصدرُ عن عقلٍ حرٍّ يُعيدُ تأسيسَ العالم والمفاهيم ويُخضعُ كلَّ سائدٍ إلى النّقدِ والتّعديلِ.. لم يعدْ من الممكنِ في هذه المرحلةِ أن يُنبَذَ الاختلاف فقد تعدّدت الرؤى وتلوَّنت بألوانٍ شتّى. اتسعت الآفاقُ ورحبت وعلمَ كلُّ إنسانٍ أنَّ الوجودَ البشريَّ يتجاوزُ قبيلتَه وقريتَه ليعانقَ القمرَ..

قبولُ الاختلافِ قيمةٌ حديثةٌ جدا في تاريخِ الإنسانِ ويبدو أنّ انتشارَها ليس بالأمرِ اليسيرِ إطلاقا.. هو في حاجةٍ إلى مقاومةِ قرونٍ من الهمجيّةِ والبربريّةِ والانغلاقِ.. وتركيبةٍ نفسيّةٍ تجنحُ إلى نبذِ كلِّ مختلفٍ ناتجةٍ عن تراكماتٍ من الخوفِ والشعورِ بعدمِ الأمانِ..

وهي قيمة يتربّى عليها الإنسانُ منذ صغرِه.. فيتعلّمُ أن يتقبّلَ المختلفين ولا يعتبرُ اختلافَهم استفزازا شخصيّا له ولا تهديدا لوجودِه.. ويتوجّبُ لتحقيقِ ذلك كسرُ الصورِ النمطيّةِ بالمعرفةِ والاطِّلاعِ على تجاربِ الآخرين ومآسيهم وأخطائهم.. والأهمُ من ذلك معرفةُ الذاتِ وإعادةُ قراءةِ تجربتِها في ظلِّ ما توصّلَ إليه العلمُ اليوم وبعيدا عن هوسِ التّقديسِ أو التّدنيس..

ليس الأمرُ إذا بسيطا ولا تلقائيا.. فعندما يتربّى الإنسانُ طوال عمرِه في بيئةٍ لا تميّزُ بين الخطابِ العنصريِّ والخطابِ غيرِ العنصريّ.. عندما يكونُ المزاحُ فيها بالتنمّرِ على الآخرين.. عندما يكونُ خطابُ الكراهيّةِ مستساغا ك “صباح الخير”، عندها يصبحُ من الصّعبِ جدا نشر ثقافةِ قبولِ الآخر..

ولكن من معجزاتِ الإنسانيّةِ.. أنَّ بعضَ الناسِ يمتلكون القدرةَ على رفضِ القولَبَةِ والتّدجينِ فيتفلّتون من سلطةِ الصحف التي خُطّت وجفّت أقلامُها.. حيث يكونُ الإنسانُ قادرا على رسمِ طريقهِ بنفسِه.. فيختزلُ بحياةٍ واحدةٍ عشرات الحيوات ويستوعبُ بعقلِه آلافَ الأفكارِ التي خطرت على آلافِ العقولِ ويستفيدُ من تجاربِ ملايين البشرِ عبر العصورِ.. فيرفضُ أن يكونَ نسخةً عن قطيعٍ يجترُّ نفسَه كلَّ يومٍ. ويعانقُ الإنسانيّة حرّا طليقا في تجربةٍ فريدةٍ متفرّدةٍ ضمن فسيفساء بديعٍ.

قد يعجبك ايضا