عَوْدٌ
صوت القطار رتيبٌ مزعجٌ والمشاهد مملّةُ تتلاحق أَمام ناظريها في تدرُّجٍ خفيٍّ من الخصب إِلى القحط ولكنَّها كانت غائبةً.. لا تكاد تدرك شيئًا ممّا يدور حولها.. حواسُّها شبه معطّلةٍ.. كانت غارقةً تمامًا في أَفكارها المتداخلة الحائرة. أَسندت رأسها إِلى بلور النافذة معلنةً بذلك لجارها عدم استعدادها للخوض في أَيِّ موضوعٍ فهي لا تقو على الحديث لا في السّياسة ولا في الطَّقس ولا في تدهور أَخلاقيّات المجتمع…
لقد قطع القطار مسافةً كبيرةً وها هي تستعدّ للعودة إِلى تلك القرية البعيدة الحزينة.. تداعت الصّور في ذهنها بلا رحمةٍ رأت تلك الطفلة في ثوبها الورديِّ وحذائها الأَبيض يقتادُها رجلٌ لا تعرفه إِلى بيت عمَّتها التي لا تعرفها. نزلت من العربةِ فغاصت قدمها في التُّراب، حاولت السَّير في الأَرض الوعرة بشكلٍ ثابتٍ.. الحذاء كان ناعمًا بشرائط حريريَّةٍ مربوطةٍ في كاحلها. والتُّراب يغوص داخله فترفعه بصعوبةٍ شديدةٍ.. لم تفكِّر في التَّذمُّر وظلَّت تحاول التَّقدُّم بصمتٍ.. شيءٌ ما أَشعرها أَنَّ لا حقّ لها في التَّذمُّر بعد اليوم. وصلا إِلى البيت الذي كان عبارةً عن غرفتين تنفتحان على ساحةٍ صغيرةٍ ترتع فيها مجموعةٌ من الحيوانات أَدخلها الرَّجلُ إِلى الغرفة الكبيرة.. شعرت بأَنَّ دقّات قلبها ترتفع وترتفع وتصمّ أُذنيها.. ولكنَّها سمعت بشكلٍ جيِّدٍ النَّشيج الذي صاحب دخولها الغرفة وميَّزت نحيب تلك المرأة التي كانت تتوسَّط الغرفة وقد عصَّبت رأسها وبدأَت تضربُ فخذيها براحتيْ يديها وهي تردِّد بلا مللٍ: ” كان زواج الشُّؤم على أَخي.. كان زواج الشُّؤم..”
“هل تشعرين بالبرد؟ ” سأَلها جارُها في المقعد. انتفضت ونظرت إِليه مستغربةً.. ولكنَّها انتبهت إِلى أَنَّها ترتجف بشكلٍ بادٍ ظاهرٍ فجمعت يديْها بقوَّةٍ إِلى حجرها وقالت: ” لا أَبدًا … شكرًا ” واستدارت إِلى النّافذة وهي تحاول السَّيطرة على أَنفاسها وعلى ارتعاد أَطرافها.
ضجَّت الأَصوات في الغرفة.. الجميعُ يتكلمون بصوتٍ مرتفعٍ وبلهجةٍ لا تكاد تُفهم منها كلمةٌ لكنَّها ميَّزت بشكلٍ واضحٍ كلمة “مسكينة” التي ردَّدها كلُّ من وقعت عيناهُ عليها. فجأَةً وجدت الرَّجل الذي اقتادها ينتهر عمَّتها قائلًا: “اتَّقي الله.. لقد فقدت لتوّها أَبويِها.. اتَّقي الله”
فعادت كلمة “مسكينة” إِلى التَّردد في أَرجاء الغرفة وكأَنَّ الموجودين يؤدّون طقسًا تعبُّديًّا ولكنَّه سرعان ما قُطع بانتفاضةٍ ثائرةٍ من العمَّة وهي تصرخ “ما من مسكينٍ في هذه الدنيا غيري.. فقدتُ شقيقي الوحيد نور عيوني بعد أَن حُرمتُ من مجرَّد النَّظر إِليه لسنواتٍ، الللللللله لا يسامح من كان سببًا.. والآن سأَهتمّ بابنته رغم أَسقامي ورغم أَطفالي الستة.. آآآآه يا حظي العاثر..”
كانت تلك زيارتها الأُولى إِلى القرية … وقد ظلَّت ذكراها محفورةً في كلِّ حواسّها وفي شرايينها وفي مسام جلدها.. لقد اجتاحت تفاصيلُ ذلك اليوم ذاكرتها الغضَّة وأَقامت فيها إِلى الأَبدِ.
بعد ذلك حاولت الطِّفلة التقرُّب من عمتِّها ولكنَّها سرعان ما اكتشفت أَنَّ الهوَّة بينهما أَوسع من أَن يغطّيها جسرٌ من اللُّطف أَو التودُّد فيبدو أَنَّها كانت تذكِّرها باستمرارٍ بصورة أُمِّها المُشوَّهة جدًا في ذهنها فارتأَت بأَن تكتفيَ بتخفيف وطأَة حضورها قدر المُستطاع.
وقد كانت تصرخ بها بين الحين والحين: ” لا تكوني متعجرفةً متكبِّرةً مثل أُمِّك … لا تكرهينا وتكرهي مسقط رأس أَبيك كما كانت تفعلُ … إِيّاك أَن تكوني قاسيةً مثلها … “وكانت تختمُ كلامها بنوبة بكاءٍ ونحيبٍ.
والغريب أَنَّها ركَّزت كلَّ طاقاتها في محاولة الابتعاد عن نموذج شخصيَّة أُمِّها.. لا امتثالًا لنصائح عمَّتها وإِنَّما كي لا تكون على تلك الصُّورة المُنفِّرة الباعثةِ على كلِّ ذلك الرَّفض في النّفوس.
تعلَّمت سريعًا أَن تنغلقَ على نفسها كصَدفةٍ وأَن لا تشاركَ في الصِّراعات والحوارات والآراء وأَن لا تثير غضبَ أَحدٍ وأَن تشتغلَ على نفسها غير آبهةٍ بما يدورُ حولها.
وقد علمت وهي تعدّ نفسها للسَّفر إِلى العاصمة بعد نجاحها في الباكلوريا.. علمت أَنَّها لن تعودَ مُطلقًا للقرية. لا كرهًا لها ولسكّانها وإِنَّما توقًا إِلى الانعتاق.. إِلى الفضاء الرَّحب.. إِلى الحياة الصَّميمة.. إِلى نفسها التي كانت في حاجةٍ إِلى اكتشافها واختبارها. ولا زالت تذكرُ أَنَّها بكت طويلًا ليلةَ سفرها…
شعرت بيدِ جارِها تمتدّ نحوها. التفتت نصف التفاتةٍ فإِذا هو يناولها منديلًا.. صامتًا. أخذته ممتنّةً وقد انتبهت إِلى أَنَّ الدُّموع تغسل وجنتيها. شكرتهُ وعادت إِلى نافذتها وإِلى أَفكارها.
آخرُ أَمرٍ توقَّعته أَن يزورها أَحد أَبناء عمَّتها وقد حصل ذلك مساء الأَمس. عندما فتحت الباب على وجه ابن عمَّتها الأَكبر، شعرت بأَنَّ الدُّنيا من حولها تدور وتدور وأَنَّ الزَّمن يعود القهقرى. شعر باضطرابها فبادرها مُعاتبًا: ” أَلن تسلِّمي عليَّ؟” سارعت إِلى مصافحته فأَضاف: ” عمَّتك على فراش الموت وقد طلبت منّي أَن أُسافر إِلى العاصمة وأَن لا أَعود إِلّا بك.”
عمَّتها على فراش الموت؟ وتريد رؤيتها؟ وبكلِّ هذا الالحاح؟ لمَ يا ترى؟
سمعت صوت جارها في المقعد يكلِّمها، التفتت فإِذا هو يُعلمها بأَنَّ القطار بلغ محطَّتها، نظرت إِليه مستغربةً فابتسم ووضَّح أَنَّه علم ذلك من حوارها مع مراقب التَّذاكر. لملمت شتاتها وقامت مستعجلةً للباب.. لا أَحد غيرها في العربة سينزل في القرية البعيدة الحزينة قفزت إِلى أَرضيَّة المحطَّة فبلغها صوت مرافقها وهو يقول باهتمامٍ: ” اعتني بنفسك..”
كان عليها أَن تستقلَّ عربةً تحملها إِلى حجر الجبل وكانت محظوظةً بأَن وجدت واحدة على أَهبة الانطلاق
بدأَت العربةُ تقفزُ في الطَّريق وراح قلبُها ينتفض في جنونٍ وهي تقترب شيئًا فشيئًا من البيت. نزلت من العربة فغاصت قدمها في التُّراب.. حذاؤها هذه المرَّة قويٌّ متينٌ.. خطت الخطوات التي تفصلها عن الغرفة وهي تشعرُ بأَنَّها ترى المشهد من خارجه ولا تعيشهُ. دخلت فإِذا عمَّتها ممدَّدة على فراشٍ تحيط بها مجموعةٌ من النّسوة وقد قابلن دخولها بارتياحٍ وتهليلٍ ودموعٍ. سلَّمت عليهنَّ واقتربت منها. لم تكن قادرةً على تمييز مشاعرها وهي ترى الوجه الشّاحب والعينين الغائرتين. سمعت صوتها الخافت يطلب من الحاضرات مغادرة الغرفة ومنها الاقتراب أَكثر. خطت نحوها خطوةً أُخرى وهم وهمَّت بالكلام فلم تسعفها الكلماتُ. تفرَّست عمَّتها في وجهها مليًّا وقالت بصوتٍ حالمٍ: ” كم تشبهين أُمَّكِ … لطالما كنت تشبهينها.. وكنتِ سنةً بعد سنةٍ تصِيرين مثلها تمامًا شكلًا ومضمونًا. ” نظرت إِليها مستغربةً وقالت: “أَنا؟ أشبه أُمي شكلًا ومضمونًا؟” فسالت دمعةٌ من عينها وهي تضيفُ: “كانت هادئةً بسيطةً متسامحةً ذكيّةً جمييييلةً… مثلكِ تمامًا.” اتَّسعت عيناها وبدت علاماتُ الذُّهول على وجهها وهي تسمعُ هذا الكلام من عمَّتها التي واصلت بصوتٍ متهدِّجٍ: ” ولكنِّي لم أُسامحها يومًا على ما كانت عليه وعلى ما فعلته.. لقد تقبَّلت حمقي واستفزازاتي لها بهدوءٍ كريهٍ وتجاوزت غيرتي منها بتسامحٍ مقرفٍ.. لقد تعلَّق بها أَخي وهام.. وصار على يديْها رجلًا غريبًا لا أَعرفه ونأَى عنّي وعن قريته وراح يجول معها أَصقاع الدُّنيا.. ترك قريته وأَرضه وأُخته الشَّقيَّة التي أَفنت شبابها في خدمته ورعايته وذهب حيث كانت تذهب إِلى تلك البلدان البعيدة حيث الحروب والمجاعات والأَوبئة… لقد سلبته لبَّه فتبعها حتّى حتفهما.”
شعرت بأَنَّ الأَرض تميد بها وبأَنَّها على وشك الإِغماء.
ولكن عمَّتها أَمسكت يدَها وقالت: “لم أَحضنك يومًا ولم أُقبِّل وجهك الجميل.. لقد حرمني الله من ذلك على كلِّ حالٍ. كلُّ ما أَرجوه الآن … أَن تسامحيني..”
جثت على ركبتيْها بجانب السَّرير ونظرت في عينيْ عمَّتها لأَوَّل مرَّة وقالت: ” لم تحضنيني يومًا ولكنَّك أَطعمتني مع صغارك وآويتني تحت سقفك وطبَّبتني عند المرض… وكنت تتجنَّبين طبخ المأكولات التي لا أُحبُّها وكنت لا تكلِّفينني بأَيِّ عملٍ زمن الامتحانات رغم أَنَّ بناتك لم يواصلن تعليمهن.. وكنت إِذا غضبت من بناتك توسعيهن ضربًا في حين أَنَّك لم تعنِّفيني يومًا لأَيِّ سببٍ من الأَسباب وكنت تتوجَّسين من أَبنائك الشَّباب عليَّ فلا تسمحين لي بأَيَّة خلوة معهم … “انفرجت أَساريرُ عمَّتها وهي تصغي لكلامها وانهمرت دموعٌ غزيرةٌ من عينيها وهي تسأَلها: “أَحقًّا كنت أَفعل؟؟ أَحقًّا فعلت هذا من أَجلك؟؟ لم أَنتبه والله … كنت أَعتقد أَنَّك تكرهينني” ارتخت قبضة يد العمَّة وأَسبلت جفنيها فضغطت على كفِّها بقوَّةٍ مردِّدةً: “عمَّتي.. عمَّتي” فسمعت صوتها الخافت يهمس: ” لا بأس.. اتركيني أَرتاح”