انسحبْتُ
كانَ يجلسُ معي عاريًا بنصفِهِ الْأَعلى شديدِ الْبياضِ كأَجسامِ الْأَطفالِ الَّتي لم تَطلْها أَشعةُ شمسِنا يومًا..
كانَ صدرُهُ خاليًا مَنَ الشَّعرِ إِلَّا الْقليلِ مِنْه في وسطِهِ، ورغمَ هزالِ جسدِهِ إِلَّا أَنَّ بروزَ صدرِهِ إِلى الْأَمامِ كانَ ينمُّ عن اعتدادِهِ بنفسِهِ وعن شيءٍ آخرَ لم أَتلمَّسْهُ حتَّى النهاية…
كانَ يشربُ الْبيرة ونحنُ نخطِّطُ لبرامجِ عملٍ في غايةِ الْجدِّيَّةِ.. يشربُ دونَ توقُّفٍ، مهما طالَتْ جلساتُنا، وغالبًا ما كانَتْ تطولُ حتَّى ساعات الليلِ الْمتأَخرةِ أَو الصَّباحِ الْباكرَةِ.. ولم يسكرْ.
كنْتُ أَعلمُ أَنَّ سلوكَهُ غيرُ لائقٍ.. ليسَ لأَنَّه لا يتماشى معَ أُسسِ الدِّين ومفاهيمِ الْحلالِ والْحرامِ أَو قيمِ الْمجتمعِ ومفاهيمِ الْعيبِ إِذ إِنَّها لم تكنْ تعنيني لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ.. بل لأَنَّ سلوكَهُ هذا لم يتناسبْ معَ أَهدافِ لقاءاتِنا الاجتماعيَّةِ السَّياسيَّةِ ولا معَ إِطارِنا الْمهنيِّ.
كانَ سلوكُهُ خارجًا عن السِّياقِ هجينًا تفوحُ مِنْه رائحةُ غرابةٍ لم أَستطعْ تبيُّنَ ملامحِها ولا التَّعرُّفَ على معالمِها، كنْتُ أَشعرُ مِنْ جهةٍ بالضِّيقِ، بعدمِ الارتياحِ، بالتَّوتُّرِ، بالإِحراجِ وبإِرباكٍ شديدٍ يجعلُني طوالَ الْوقتِ أَتحاشى النَّظرَ مباشرةً إِليهِ.. لكنِّي مِنْ جهةٍ أُخرى لم أَرَ أَنْ مِنْ حقِّي التَّدخُّلَ في سلوكِهِ وهو في بيتِهِ ولم أَعتقدْ أَنِّي أَملكُ السُّلطةَ لأَفرضَ عليهِ مواقفي وهو في حيِّزِه الشَّخصيِّ.
وبالرَّغمِ مِن نجاعتي في إِنجازِ الْمهامِ كانَتْ عضلاتي كلُّها تبقى مشدودةً طوالَ جلساتِنا، يداي مقبوضتينِ في حالةٍ تجعلُ ظهري مقوَّسًا وصدري منكمشًا، رِجلاي في حركةٍ دائمةٍ.. واحدةٌ تضغطُ على الأُرضِ لتبثَّ الثَّباتَ في روحي والْأُخرى تهتَزُّ بِلا توقُّفٍ ثمَّ تتبادلُ الْأَدوارُ، وعندما تتعبُ رِجلاي أَنتقلُ للضَّغطِ
على أَصابعِ يديَّ.. كنْتُ أَخافُ أَن تلتقيَ عيونُنا فيرى توتُّري أَو أَن تقعَ عينيَّ على وجهِهِ أَو صدرِهِ فيرى إِحراجي ويشتمُّ شيئًا مِن رائحةِ السُّؤالِ الْعفنةِ الْملحَّةِ الْمنتشرةِ في رأسي: “ما الَّذي يدفعُهُ أَنْ يكونَ شبهَ عارٍ.. شبهَ مخمورٍ في حضرتي.. ما الَّذي يريدُ أَنْ يستفزَّهُ في داخلي مِنْ خلالِ سلوكِهِ الْهجينِ هذا؟ هل حقًّا لا يرى توتُّري؟”
ورغمَ ضيقي الشَّديدِ كنْتُ أَتظاهرُ بعدمِ الْمبالاةْ.. وأُعلِّلُ ذلكَ لنفسي بأَنِّي امرأَةٌ متحرِّرةٌ لا يهزُّني عُريُ الرِّجالِ ولا وجودُهم شبهُ مخمورين معي وفعلًا لم يهزّني، أّو هكذا على الْأَقلِّ اعتقدْتُ وقدْ صدَّقْتُ كذبتي أَو وهمي.. وكنْتُ سعيدةً بنفسي.. حتَّى حدثَ ذاتَ مرَّةٍ أَنْ بدأَتِ امرأَتُهُ تتأفَّفُ، تروحُ وتجيءُ بضيقٍ شديدٍ.. تطفئُ الْأَضواءَ في أَرجاءِ الْبيتِ معلنةً أَنَّ ساعةَ النَّومِ قدْ حلَّتْ وأَنَّ ساعةَ مغادرتي قد وجبَتْ، تتثاءبُ أَو تصطنعُ التَّثاؤبَ، تنظِّفُ الْأَواني وتُلقيها بحركاتٍ متوتِّرةٍ مِصدرةً من ارتطامِها ببعضِها طقطقةً مستفزَّةً وأَصواتًا متنافرةً، تفعلُ أَيَّ شيءٍ لتبقى قريبةً مِنّا، حولَنا، وتزعجُنا..
ازدادَ ضيقي وصارَ يتضاعفُ معَ كلِّ لحظةٍ تمرُّ ومعَ كلِّ حركةٍ تصدرُ عنها، فاعتذرْتُ وطلبْتُ التَّوقُّفَ عنِ الْعملِ وتأجيلِه لموعدٍ آخرَ..
تركْتُهما وكلِّي انقباضٌ مِنْ أَمرٍ مُرتقَبٍ لا أَفهمُ كنهَهُ لكنِّي أَستشعرُهُ بروحي.. تركْتُهما وأَنا أَشعرُ أَنِّي تركْتُ خلفي قنبلةً موقوتةً لا يُمكنُ توقُّعُ موعدِ انفجارِها ولا نتائجِها ولا أَبعادِها..
لم تمضِ بضعُ دقائقَ حتَّى سمعْتُ دقًا خفيفًا على الْبابِ.. كانَت السَّاعةُ بعدَ الثَّانيةَ عشرةَ ليلًا.. وقفْتُ خلفَ الْبابِ بقلقٍ وتخوُّفٍ شديدين: “مَنْ يا تُرى يطرقُ بابي في هذا الْوقتِ الْمتأَخِّرِ مِنَ الليلِ؟”.
إِحساسٌ مِنْ داخلي كالْحدسِ أَشارَ لي أَنَّ هناكَ أَمرًا جللًا عليَّ معالجتُهُ، دفعَني أَنْ أَفتحَ الْبابَ، وإِذْ بزوجتِهِ تقفُ أَمامي، ترتجفُ بشدَّةٍ، ترجوني بصوتٍ أَصابَهُ الذُّلُّ والْمهانةُ أَنْ أَعودَ لأُتابعَ الْعملَ، تكادُ تقبِّلُ يديَّ، تعتذرُ وجسدُها كلُّه منكمشٌ على ذاتِهِ، رأسُها وعيناها في اتجاهِ الْأَرضِ، كتفاها متهدِّلان، بدَتْ عجوزًا هدَّها الزَّمنُ، تُقسمُ بهتانًا – وأًنا أًعرفُ – أَنَّها لم تقصدْ مضايقتي، ترتعدُ وتبكي.. أُوضِّحُ لها كذبًا – وهي تعرفُ – أَنِّي غادرْتُ بيتَهما ليسَ ضيقًا مَنْها، بل لالتزاماتي الْكثيرةِ ليومِ غدٍ، أَستبعدُ فكرتَها الَّتي أُصوِّرُها
بأَنَّها غبيَّةٌ لا تمتُّ بصلةٍ لسببِ مغادرتي بيتِهما، أَقولُ لها مُستنكِرةً: “مِنْ أَينَ أَتتكِ هذِه الْأَفكارُ الْغريبةِ؟!”
لمْ يكنْ لجُملي أَيِّ مكانٍ في روحِها الْمخذولةِ الْمُتمحورةِ حولَ شيءٍ واحدٍ يسيطرُ على كلِّ كيانِها ووجدانِها وهو اصطحابي إِلى بيتِها مِنْ جديد وفورًا، تُكرِّرُ رجاءَها أَنْ أَعودَ مرَّاتٍ عديدةٍ ومعَ كلِّ مرَّةٍ يعلو فيها استجداؤُها أُكثر.. ويختنقُ صوتُها أَكثر.. تنكمشُ وتتقلَّصُ أَكثر فأَراها تصغُرُ وتصغُرُ.. تصغُرُ حتَّى تلتصقُ بالْأَرضِ.. والْأَرضُ تبتلعُها أَمامي.. وعندما تيأَسُ كلُّ محاولاتِها تقولُ متوسِّلةً: “أَرجوكِ عودي.. لقدْ هدَّدني وفرضَ عليَّ الاعتذارَ لكِ وأَمامَهُ، عدمُ عودتِكِ يعني خرابُ بيتي.. أَرجوكِ عودي!”
وعدْتُ!
نعم.. عدْتُ!
ليسَ رغبةً في متابعةِ الْعملِ بلْ حمايةً لها من زوجِها.
مشينا صامتتين إلى بيته! لأَوَّلِ مرَّةٍ أَستوعبُ أَنَّ الْبيتَ هو بيتُه ولأَوَّلِ مرَّةٍ أَستوعبُ ما معنى أَن يكون البيتُ بيتَه..
مشينا صامتتين والليلُ يلفُّنا معًا ويخفي ملامحَنا في عتمةِ الْكونِ.. مشينا وهوَّةٌ عميقةٌ تفصلُنا الْواحدةُ عن الْأُخرى..
عدْتُ! وقفْتُ بينهما وهي تعتذرُ لي.. حاولْتُ أَن لا أَنظرَ إِليهِ كالْعادة
توجَّعْتُ!
توجَّعْتُ كثيرا!
كنْتُ شبهَ مشلولةٍ وصورةُ الرَّجلِ شبهِ الْعاري.. شبهِ الْمخمورِ الَّذي يقفُ أَمامي تكبُرُ وتكبُرُ في الْغرفةِ..
تصبحُ عملاقةً وتمحوني أَنا وهيَ معًا.. وأًفهمُ!
كم أَحتقِرُ الْعمالقة!
قدَّمْتُ واجبي تجاهَها.. مثَّلت دوري تجاهَه..
وانسحبْتُ.. انسحبْتُ بغصَّةِ صرخةٍ تخنقُني!
انسحبْتُ بصمتٍ يملأُ الْفضاءِ!