وتجمدَّت الأرثوذكسية عند خلقيدونية

تطوّرُ الكنيسةِ الكاثوليكية
القارئُ لتاريخِ الكنيسةِ الكاثوليكيّة سيجدُ أنَّها قد مرّت بعدّةِ مراحل من التطوُّرِ:

الأولى هي مرحلةُ الاضطهادِ الشّاملِ للمسيحيّةِ حتّى القرنِ الرابعِ ميلاديّا مع اعتناقِ الإمبراطورِ قسطنطين لها (272م- 337م).

الثّانية مرحلةُ التبعيّةِ الكاملةِ للدّولةِ وسيطرة الإمبراطورِ على الكنيسةِ والدولةِ معًا وخضوعها التّام لسلطةِ الدولةِ عملاً بوصايا بولس الرسول، التي تضمّنت محاولةَ الكنيسةِ خلق سلطةٍ روحيّةٍ موازيةٍ للسّلطةِ السياسيّةِ من خلالِ نظريّةِ السّيفيْن من القرنِ الخامسِ وحتّى نهايةِ القرنِ العاشرِ.

المرحلةُ الثّالثةُ كانت مع دخولِ القرنِ الحادي عشر وجلوسِ البابا جرجوري السابع (1015 – 1085) على كرسيِّ البابويّة عندما نجحت الكنيسةُ في التّخلُّصِ من سيطرةِ الإمبراطورِ على الكنيسةِ بل والسّيطرةِ على الدّولةِ ليصبحَ البابا المالكَ للسّيفين الزّمانيِّ والرّوحيِّ وهى المرحلةُ التي استمرَّت لأكثرِ من سبعةِ قرونٍ لتنتهيَ مع الثورةِ الأمريكيّةِ ثمَّ الفرنسيَّةِ وأخيراً قانونِ العلمانيّةِ الفرنسيِّ عام 1905.

المرحلةُ الرّابعةُ والأخيرةُ هي التي نعيشُها الآن فيمكنُ التأريخُ لها بعام 1965 مع نهايةِ مجمعِ الفاتيكان الثاني وصدورِ وثائقِه والذي يُمكن اعتبارُه إعلان خضوعِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ لقيمِ التنويرِ والحداثةِ بل واعتبارِها قيمًا مسيحيّة من خلال تقديمِ تأصيلٍ إنجيلي لها.

أسبابُ تطوّرِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ
في خلالِ المرحلةِ الثّالثةِ من مراحلِ تطوُّرِ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ وتحديداً بحلولِ القرنِ السادس عشر بدأت الثورةُ العلميّةُ والدينيّةُ ثم لاحقاً في القرنِ السابع عشر والثامن عشر الثورةُ الفلسفيّةُ ثمّ السياسيّةُ على الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ كردِ فعلٍ طبيعيٍّ على استبدادِها وفسادِها. قادَ هذه الثورةَ رجالُ دينٍ أبرزُهم مارتن لوثر وجون كالفن، وعلماءُ أشهرُهم ليوناردو دا فينشي، ومفكرون وفلاسفةٌ أبرزُهم مكيافللي وتوماس مور وكوبرنيكوس، ثم جاء فلاسفةُ العقدِ الاجتماعيِّ هوبز ولوك وروسو، ونقّادُ الكتابِ المقدَّسِ وعلى رأسِهم سبينوزا، ثم كان عصرُ الأنوارِ الذي مثّل اِنقلابًا في الفكرِ الإنسانيِّ من ديكارت إلى فولتير وهيوم وكانط وأوَّل فلاسفةِ النسويّةِ ماري وولستونكرافت، وصولاً لداروين.

زخمٌ علميٌّ وفلسفيٌّ شكّل تحدّيًا فلسفيًّا وعلميًا وعقائديًّا للكنيسةِ الكاثوليكيّةِ، قابلته الكنيسةُ في البدايةِ بالعنفِ والقمعِ الذي تراوحَ بين السّجنِ وحرقِ الكتبِ والإعدامِ وحرقِ العلماءِ والفلاسفةِ مثل جوردانو برونو (1548 – 1600)، إلّا أنّ التّراكمَ المعرفيَّ الذي أحدثه المفكرون والعلماءُ الذين قادوا مسيرةَ التنويرِ بالرّغمِ من خطورتِها ولم ينافقوا سلطةً ولا جماهيرَ ودفعوا أثمانًا باهظةً مقابل فكرِهم وعلمِهم الذي يتصادمُ مع التفسيراتِ الكنسيّةِ للدينِ آنذاك، وكان لا بدّ أن يؤدّيَ في النهايةِ إلى تراجعِ الكنيسةِ واستسلامِها للأفكارِ الجديدةِ، ليس فقط بالتّوقُّفِ عن مطاردتِها وقمعِها ومنعِها ومعاقبةِ أصحابِها، بل إنَّها مع الوقتِ تبنّتها، وأوّلت نصوصَها وفقاً لها.

أي أنّ الكاثوليكيَّة تبنّت قيمَ الحداثةِ في النهايةِ، بعد صراعٍ مريرٍ مع الفلاسفةِ والعلماء والمفكرين.

انفصالُ الكنيسةِ الأرثوذكسيَّة
تشاركت الكنيسةُ الأرثوذكسيّةُ مع الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ في المرحلتين الأوليين، مرحلة الاضطهادِ ومرحلة التّبعيّةِ للدولةِ، حيثُ كانت الكنيسةُ المسيحيّةُ كيانًا واحدًا باستثناءِ انشقاقاتٍ صغيرةٍ هنا أو هناك مثل الغنوصيّة المصريّة في القرن الثاني ميلاديّا على يدِ المُعلمين السكندريين فالنتينوس (100 – 160م) وباسيليوس  والأريوسية التي ظهرت في مصر أيضاً في القرنِ الثالثِ على يد آريوس (250 – 336م)  الذي أدّى إلى أوّلِ مجمعٍ مسكونيٍّ في تاريخِ المسيحيّةِ وهو مجمع نيقية الأوَّل، لمواجهةِ هذه الأفكارِ الآريوسيّة والذي بلورَ “قانون الإيمان” القائَم حتّى اليوم. إلا أنّ هذه “الهرطقات” كما تسمّيها الكنيسةُ لم تكن ذاتَ أثرٍ كبيرٍ على وحدةِ الكنيسةِ المسيحيّةِ.

ثمَّ كانَ مجمّعُ خلقيدونية عام 451 ميلاديّا، وهو المجمعُ الذي شهد انقسامَ الكنيسةِ المسيحيّةِ إلى يعاقبة وملكانيين الذين أصبحوا لاحقًا أقباطًا أرثوذوكس وكاثوليك وروم أرثوذكس، ليستمرَّ الانقسامُ حتَّى هذه اللحظة. وإذا كانَ الشائعُ والمُعلنُ أنَّ سببَ الانشقاقِ هو الخلافُ حولَ طبيعةِ المسيحِ هل هو من طبيعةٍ واحدةٍ أم طبيعتين. إلا أنَّ هناك من يرى أنَّ الأمرَ سياسيٌّ يتعلَّقُ بمكانةِ كنيسةِ الإسكندريّة في مقابلِ كنيسةِ روما وكنيسةِ بيزنطة، حيثُ تمتّعت كنيسةُ الإسكندريّة بموقعٍ مرموقٍ مكّنها من ممارسةِ نفوذٍ أكبر وصلاحياتٍ أوسع داخلَ وخارجَ مصر إلى درجةٍ وصفها بـ “فراعنة الكنيسة”، فيقولُ عزيز سوريال “ولكنَّ المسألةَ هنا سياسيّةٌ بالدرجةِ الأولى، إذ أنه قُصد بمجمّعِ خلقيدونية تقليمُ أظافرِ الكنيسةِ المصريّةِ التي رأى البابا الرومانيُّ أنَّها قد تجاوزت حدودَها.”  ويقولُ في موضعٍ أخر “وبهذا تمّ نسفُ القانونِ السادسِ لمجمّعِ نيقيا المسكونيِّ الذي نصّ على التّأكيدِ على الحقوقِ التاريخيّةِ لأسقفيتىِّ الإسكندرية وأنطاكيا، وذلك لرفعِ كنيسة القسطنطينية إلى المقامِ الثاني بعد مدينةِ روما، على حسابِ كنيسةِ الإسكندريّة العريقةِ”.

وبهذا فُتح بابُ الاضطهادِ ضدَّ المسيحيّين المصريّين على يدِ إخوانِهم المسيحيّين الغربيّين، ولتأخذ كلٌّ من كنيسةِ روما وكنيسةِ الإسكندريّة مسارين تاريخيّين مختلفين.

مساران ربّما كانا السّببَ الرئيسيَّ لانغلاقِ الكنيسةِ المصريّةِ الأرثوذكسيّةِ وجمودِها عندَ أفكارِ القرنِ الخامسِ ميلاديّا وانفتاحِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ وتطوّرِها وقد تجلّت في وثائق مجمّعِ الفاتيكان الثاني.

الاضطهادُ كسببٍ للانغلاقِ
بعدَ اِنتهاءِ الصراعِ الدينيِّ في مجمّعِ خلقيدونية بدأ الاضطهادُ الملكاني التابعُ للإمبراطورِ ضدَّ اليعاقبة المصريّين على الفورِ بخلعِ البابا ديوسقورس الأوّلِ بفعلِ رفضِه لقراراتِ المجمّعِ المسكونيِّ، حيثُ نُفى إلى جزيرةِ جاجرا ومعه مقاريوس أسقف أدكو، واِثنان آخران. وقد ماتَ هناك، بينما هرب مقاريوس الأسقفُ عائداً للإسكندريّة بمساعدةِ البابا ديوسقورس حيث قُتل هناك على يدِ الرومان. وهي حقبةُ اضطهادِ بولكيريا وماركيانوس. فقد أصدرَ الامبراطورُ ماركيانوس أمراً امبراطوريّا بقتلِ كلّ من يعارضُ مذهبَ الطبيعتين، وابتدأ في مصر عصرُ اضطهادِ المسيحيّين المصريّين وكنيسةِ الإسكندرية، وعيّنَ البيزنطيون بطريرك -يتبعُ مذهبَهم- وهو برتارس بدل ديوسقوروس، لكنّ الأقباطَ رفضوا الاعترافَ به كما رفضوا قراراتِ مجمّعِ خلقدونيا، واستفحلَ الخلافُ بينَ مسيحيي مصرَ والبيزنطيين الموجودين في مصرَ الذين تدعمُهم الإمبراطوريّةُ في كلِّ وقت.

وفي عصرِ قيرس (المقوقس) استمرَّ الاضطهادُ عشرَ سنواتٍ اُقتحمت فيها الأديرةُ وسُرقت محتوياتُ الكنائسِ ودُفن الأقباطُ وهم أحياءُ وتمّ إذلالُ الأساقفةِ بربطِ رقابِهم بالسلاسلِ والأغلالِ وجرّهم في الشّوارعِ والإغراقِ في البحرِ وحرقِهم كما حدثَ مع شقيقِ الأنبا بنيامين، وقُتلَ من الأقباطِ أعدادٌ كبيرةٌ على يدِ البيزنطيّين المسيحيّين. وقد يكونُ عددُ مَن قُتل في هذه الاضطهاداتِ البيزنطيّة أكثرَ من أعدادِ الشهداءِ أثناءَ مواجهةِ الرومانِ الوثنيّين في السنين الأولى للمسيحية.

كما وهاجمَ العسكرُ البيزنطيِّ الكنيسةَ وقتَ الصلاةِ والاحتفالِ في ليلةِ عيدِ القيامةِ وقَتلوا منهم أعدادًا كبيرةً ونهبوا ممتلكاتِ الكنائس من أموالٍ وغيرِها وأعطوها للبطريرك البيزنطيِّ.

واستمرَ هذا الاضطهادُ البيزنطيُّ حتَّى اِستيلاء العربِ المسلمين على مصر عام 641 م، أي 190 عامًا من الاضطهادِ المسيحيِّ – المسيحيِّ، تخلّلتها عشرُ سنواتٍ من السّيطرةِ الفارسيّة من 618 إلى 629 م. لم تخلُ أيضاً من الاضطهادِ والقمعِ، يصفُ بأن المصريّين “قد خرجوا من حكمِ الفرسِ إلى حكمِ الروف قد رُفع عنهم التّعذيبِ بالسياطِ ليحلَّ بهم تعذيبُ آخر بلسعِ العقارب”

ومع استيلاءِ العربِ المسلمين على مصرَ تنفّس الأقباطُ الأرثوذكس الصعداءَ لبعضِ الوقتِ، وهو الوقتُ اللازمُ حتّى يستطيعَ الحكّامُ الجُددُ السّيطرةَ على الدّولةِ الجديدةِ وترسّخَ أقدامُهم فيها، ثم بدأت دورةُ الاضطهادِ الجديدةُ بعدَ سنواتٍ قليلةٍ من الاستيلاءِ على مصرَ وحتّى بداية القرنِ التّاسع عشر مع تولّي محمد علي باشا للسلطةِ عندما بدأ رفعُ الاضطهادِ عن الأقباطِ المسيحيّين تدريجياً، ولكنّهم أصبحوا أقليّة سكانيّةً في مصر. اثنا عشر قرنًا من الاضطهادِ والتّمييزِ ضدَّ المصريّين المسيحيّين، شهدت الكثيرَ من الثوراتِ ضدَّ هذا الاستبدادِ والاضطهادِ، كان أشهرُها ثورات البشموريين التي استمرَّت لما يقربُ من 100 عامٍ في موجاتٍ متتاليةٍ.

وبهذا نرى أنَّ الكنيسةَ المصريّةَ قد عاشت في ظلِّ الاضطهادِ والقمعِ طوالَ تاريخِها باستثناءِ الفترةِ ما بينَ 313 و451 م. وذلك على عكسِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ التي لم تتعرّضْ للاضطهادِ منذُ العام 313 م بل على العكسِ أصبحت صاحبةَ السلطةِ السياسيّةِ بالإضافةِ إلى سلطتِها الروحيّةِ.

ولأنَّ أجواءَ الاضطهادِ تخلقُ شعورًا بالتّهديدِ الوجوديِّ وتجعلُ من المستحيلِ على أيّةِ دولةٍ أو جماعةٍ أو فردٍ أن ينشغلَ بعالمِ الأفكارِ، وبما هو صوابٌ وخطأ، إذ يرتكزُ كلُّ التّفكيرِ حولَ الحفاظِ على الوجودِ وتخطّي خطر الفناءِ. فنحن لا نستطيعُ أن نطلبَ من إنسانٍ على وشكِ السقوطِ من فوقِ الهرمِ الأكبر أن ينقدَ نظريّةَ بناءِ كائناتٍ فضائيّةٍ للهرمِ، فكلُّ ما يشغلُ بالَه الآن هو كيفيّة النجاةِ بحياتِه من خطرِ السّقوطِ.

لذلكَ كانَ من المستحيلِ على الكنيسةِ المصريّةِ أن تُنتجَ فكرًا جديدًا وأن تتطوّرَ مع الزّمنِ في ظلِّ الاضطهاداتِ التي تعرّضت لها منذُ نشأتِها وحتّى الآن باستثناءِ فتراتٍ قصيرةٍ في حياتِها.

ولعلَّ في حياةِ المسيحيّة ذاتِها ما يدلُّ على ذلكَ حيثُ نلاحظُ أنَّ على مدارِ ثلاثةِ قرونٍ لم تحدثْ أيّةُ ثوراتٍ فكريّةٍ أو صراعاتٍ عقائديّةٍ بين المسيحيّين، حتّى الغنوصيّة المصريّة في القرنِ الثاني لم تمثلْ هذه الثورة أو التحدّي الكبير للفكرِ المسيحي أو العقيدةِ المسيحيّةِ. فكلُّ ما كان يشغلُ آباءُ الكنيسةِ في هذه الفترةِ هو الحفاظُ على الجماعةِ المسيحيّةِ الناشئةِ.

لكن مع تحوُّلِ المسيحيّةِ إلى دولةٍ ونزولِ مملكةِ المسيحِ إلى الأرضِ على يدِ الإمبراطور قسطنطين، وشعورِ المسيحيّين والكنيسةِ بالأمانِ وزوالِ خطرِ الفناءِ، بدأت تظهرُ الاختلافاتُ العقائديّةُ وبالتالي الانقساماتُ الطائفيّةُ.

أيضاً، مع بدءِ رفعِ الاضطهادِ عن الأقباطِ الأرثوذكسِ في عهدِ محمد علي باشا وصولاً إلى إلغاءِ الجزيةِ وإدماجِهم في الجيشِ المصريِّ على يدِ سعيد باشا، كانَ من الطبيعيِّ أن يظهرَ البابا كيرلس الرابع (1816 – 1861) المعروف ب “أبو الإصلاح” الذي تولّى الباباويّة من 1854 إلى 1861. والذي تتبّعَ أثرَ الدّولةِ في التّطويرِ والإصلاحِ فبدأ بتطويرِ التعليمِ الدينيِّ وبناءِ المدارسِ، وكان أعظمُ ما فعل في هذا المجالِ هو تعليمُ البناتِ، وقامَ بشراءِ مطبعةٍ خاصّةِ للكنيسةِ كما أنشأ مكتبةً خاصّةً، ولعلَّ ثقافتَهُ وسِعةَ أُفقِه هما ما جعلاهُ يدعمُ قرارَ سعيد باشا بتجنيدِ الأقباطِ في الجيشِ المصريِّ بالرّغم من معارضةِ الأقباطِ أنفسِهم لذلك و قد كانوا مثلَ باقي المصريّين يرون في التجنيدِ كارثةً حياتيّةً وموتًا محقّقا، إلا أنّ البابا كيرلس الرابع كان يُدركُ المعنى الكبيرَ وراءَ هذا القرارِ، فهو ببساطةٍ يُقرُّ المساواةَ بين المصريّين مسلمين ومسيحيّين. هذا بخلافِ الإصلاحات الكنسية الأخرى مثل منع الكهنةِ من عملِ عقدِ أملاكٍ عند إجراءِ الخطوبةِ حتّى تُتركَ فترة للتعارفِ، تحذير الكهنةِ من تزويجِ البناتِ القاصراتِ، تحذير تزويجِ النساءِ المترملاتِ المتقدماتِ في السنِّ من الشّبابِ، تحتيمِ أخذِ رضاءِ الزوجين وموافقتِهما قبل الإكليلِ المقّدسِ. كما بدأ يصلحُ الأحوالَ المعيشيّة للرّهبان وربطَ مرتّباتٍ شهريّةً لبعضِهم، وبدأ في عملِ مدرسةٍ إكليريكيّةٍ لتعليمِهم.

وربما أفضل من يُعبّرُ عن تأثيرِ هذه الأجواءِ الحرّةِ في وسطِ الأقباطِ الأرثوذكس هو المفكّر المصريّ المسيحيّ سلامة موسى (1887 – 1958)، حيث سمحت له هذه الأجواءُ بنقدِ الكنيسةِ في كتابهِ تربية سلامة موسى “ومع أني نشـأت في المسيحيّةِ، واحتضنتني الكنيسةُ أيامَ طفولتي وشبابي، فإنّها كانت في تلكَ السّنين الأولي من عمري في جمودٍ لا يحملُ على الحماسةِ أو يبعثُ على الولاءِ، وليس من شكٍّ أنّ الكنيسةَ قد نهضت هذه الأيام، وهي الآن غيرُ ما كانت عليه قبل خمسين سنةٍ، وقد تغيّر إحساسي نحوها تغيّرات مختلفة. فقد عزفتُ عنها أيامَ الشّبابِ؛ لأنَّ وطأةَ العلومِ العصريَّة كانت شديدةً على نفسي. ثم عدت إليها في حنانٍ فوجدتُ فيها تاريخَنا المعذّبَ الممزّقَ، ووجدت صوتَ الفراعنةِ ينطلقُ عاليًا من منابرِها. فأصبحت الكنيسةُ القبطيّةُ عندي كنيسةً قوميّةً مصريّةً”. فهو هنا ينقدُ جمودَها ويحيّي خطواتِ إصلاحِها بل يرى فيها رمزًا قوميّا أكثر منه رمزًا دينيّا. وفي مقالٍ بعنوانِ: “ثلاثةُ مبادئٍ مسيحيّةٍ” يقول :

يوجدُ ثلاثةُ مبادئٍ عُليا هي في جوهرِها مبادئٌ مسيحيّةٌ، لا تقومُ بغيرِها نهضةُ الشعوبِ، وهذه الثلاثةُ مبادئ هي:-

  1. المبدأ الأول هو أنَّ الكنيسةَ تخدمُ شعبَها وليس الشعبُ هو الذي يخدمُ الكنيسةَ.
  2. المبدأ الثاني هو أنَّ اللهَ آبٌ لجميعِ البشرِ، وجميعُ البشرِ إخوةٌ.
  3. المبدأُ الثالثُ هو أنَّ الطبيعةَ حسنةٌ ولكنَّ المجتمعَ هو الذي يُفسدُها.

نرى هنا نقدًا واضحًا لعلاقةِ الكنيسةِ بشعبِ الكنيسةِ وأنّها يجبُ أن تكونَ في خدمتِه لا العكس، ثم يؤكّدُ على الأخوّةِ الإنسانيّةِ بغضِّ النّظرِ عن العقيدةِ، ثم الطبيعة الخيّرة للإنسانِ.

كما هاجمَ تعيينَ قساوسةٍ من غيرِ المتعلّمين فكتب مقالا بتاريخ 21 فبراير 1938 عنوانه: “رسامةُ القسيسين من غيرِ المتعلمين خطرٌ يجبُ أن تكافحَه البطريركية”. كما أكّد نفسَ الفكرةِ في مقالٍ هامٍّ عنوانه “بواكيرُ الإصلاحِ في البطريركية” نُشر في جريدةِ مصر بتاريخ 25 يوليو 1946 يدعو فيه دعوةً واضحةً وصريحةً إلى ضرورةِ الاهتمامِ بالنّهوضِ بالكليّةِ الأكليركيّةِ فيقول: “نحن ندعو إلى النّهوضِ بالمدرسةِ الإكليركيّة بزيادةِ ما يُنفقُ عليها حتّى نستطيعَ استخدامَ خير المعلّمين الأكفّاءِ وكذلك ندعو الآباءَ المطارنة إلى الاتفاقِ على ألا يرسّموا أحدًا قسّيسًا إلا إذا كان من خرّيجي هذه المدرسة. وبذلك يضمنُ طلبتُها مستقبلَهم ويُقبلون في رغبةٍ وحماسٍ على الالتحاقِ بها”.

هكذا أنتجت أجواءُ الأمانِ والحريّةِ والمواطنةِ إصلاحاتٍ كنسيّةٍ وفتحت المجالَ لانتقاداتِ العلمانيّين مثل سلامة موسى للكنيسةِ. إلّا أنَّ هذه الإصلاحاتِ سريعًا ما انتكست وعادت الكنيسةُ للانغلاقِ والأقباطُ إلى الانكفاءِ على ذواتِهم مع ظهورِ التّهديدِ الوجوديِّ، مع سبعينات القرنِ العشرين والصّحوةِ الإسلاميّةِ التي بدأت في تهديدِ كل ما هو غيرِ مسلمٍ وغيرِ إسلاميِّ.

الانغلاقُ العامُّ للمجتمعِ المصريِّ
تظلُّ الكنيسةُ المصريّةُ الأرثوذكسيّةُ جزءًا من المجتمعِ المصريِّ ذي الأغلبيةِ المسلمةِ وتتأثّرُ بكلِّ مؤثِّراتِه وتحملُ كلَّ سماتِه وإيجابياته وسلبياته. فإذا كانت الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ قد تطوَّرت بتطوُّرِ المجتمعاتِ الأوروبيّةِ وتَطوّرٍ علومِها وفلسفتِها وأفكارِها، فأحدُ أسبابِ جمودِ الكنيسةِ الأرثوذكسيّةِ هو جمودُ المجتمعِ المصريِّ وجمودُ أفكارِه وغيابُ فلسفتِه وموتُ علومِه.

فكما كانَ أهمُّ أسبابِ تطوُّرِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ هو التطوُّرُ الفكريُّ الذي حدث بالمجتمعِ الأوروبيِّ وانتشارُ قيمِ التنويرِ والحداثةِ، ما مثّل ضغطًا فكريًّا وفلسفيًّا وعلميًّا على الكنيسةِ وعقيدتِها فكانَ عليها إمّا أن تتطوّرَ مع هذه الأفكارِ والقيمِ وتتوافقَ مع حقائقِ العلمِ الحديثِ أو تنقرضَ، فاختارت التطوُّرَ.

إلّا أنَّ هذا لم يحدثْ حتّى هذه اللّحظةِ، فالمجتمعُ المصريُّ ما زالَ يعيشُ بأفكارِ القرونِ الوسطى ويقاومُ ويعارضُ قيمَ التنويرِ والحداثةِ، ويرى فيها مخالفةً صريحةً لعقائدِ الأديانِ الإبراهيميّةِ. فلم توجدْ في المجتمعِ المصريِّ نُخبٌ فكريّةٌ وفلسفيّةٌ وعلميّةٌ كتلكَ التي وُجدت في أوروبا منذ القرنِ السّادس عشر وحتّى اليوم، لهذا لم تتعرضِ الأديانُ في مصرَ ومنها المسيحيّةُ والكنيسةُ الأرثوذكسيّة لأيّةِ تحديّاتٍ عقائديّةٍ، وهو ما جعلها لا تشعرُ بأيّةِ ضرورةٍ لتطويرِ نفسها أو إصلاحِ أيّا من مؤسساتِها.

فكما الأفراد، لا تسعى للتّغييرِ إلّا تحتَ ضغطِ الحاجةِ والضرورةِ، كذلك لن تُغيّرَ أيّةُ مؤسسةٍ ما اعتادت عليه خاصةً إذا كان الأمرُ يتعلّقُ بالعقيدةِ والدينِ والحقِّ والباطلِ حسبَ تصوّراتِها

الخاتمة
هكذا نرى أنَّ هناك سببين رئيسيين لجمودِ الكنيسةِ المصريّةِ الأرثوذكسيّةِ، الأوّلُ هو شعورُها الدائمُ بالخطرِ على وجودِها، ما يجعلُ همَّها وهمَّ المسيحيّين المصريّين عمومًا هو الحفاظُ على الوجودِ، حيث يُنظرُ إلى صراعِ الأفكارِ هنا باعتبارِه ترفًا فكريّا. والثاني، هو جمودُ البيئةِ المحيطةِ وانغلاقِها ما يجعلُها آمنةً من أيّةِ تحدّياتٍ فكريّةٍ تُجبرُها على التّطورِ. وبهذا يكونُ الطريقُ إلى تطوُّرِ الكنيسةِ المصريّةِ، هو إقرارُ مبدأ المواطنةِ في مصرَ ما يرفعُ عن المسيحيّين الخوفَ من الاندثارِ وبالتالي الانفتاح على أفكارِ الحداثةِ وقيمِ التنويرِ، والثاني هو إقرارُ مبدأ حريّةِ الرّأيِ والتّعبيرِ، ليفتحَ البابَ أمامَ ظهورِ مفكّرين وفلاسفةٍ وعلماء مصريين قادرين على نقدِ المؤسساتِ الدينيّة والنّصوصِ المقدّسةِ دونَ الخوفِ من سجنٍ أو قتلٍ.

قد يعجبك ايضا