الْحرِّيَّةُ السِّياسيَّةُ تبدأُ مِنْ حرِّيَّةِ الْجسدِ
دائمًا ما نتحدَّثُ عَنْ سيطرةِ الطُّغاةِ والنُّظمِ الْمستبدَّةِ على عقلِ الْإِنسانِ وفكرِهِ، وعَنِ استخدامهم للإِعلاميينَ ورجالِ الدِّينِ مِنْ أَجلِ غسلِ عقلِ الْمجتمعِ وتحويلِهِ إِلى قطيعٍ يقودُهُ الطّاغيةُ إِلى الْفقرِ والْجهلِ والْمرض، ولكنَّنا كثيرًا ما نغفلُ أَو نتغافلُ عَنْ سعيِ الطّاغيةِ إِلى السَّيطرةِ على جسدِ الْإِنسانِ؛ أَي السَّيطرةُ على أَخصِّ خصوصيّاتِ الْفردِ.
فبتحويلِ الْجسدِ مِنْ ملكيَّةٍ خاصَّةٍ، تخصُّ صاحبَها وحدَهُ، إِلى ملكيَّةٍ عامَّةٍ، يصبحُ للمجتمعِ والدَّولةِ الحقّ في التَّدخُلِ في كلِّ ما يتعلَّقُ بهذا الْجسدِ. ويتمُّ هذا عَنْ طريقِ نشرِ ثقافةِ الْخجلِ مِنَ الْجسدِ فيصبحُ على ذلكَ الْجسدُ الَّذي تحوَّلَ مِنْ الْملكيَّةِ الْفرديَّةِ إِلى ملكيَّةٍ عامَّةٍ أَنْ يخضعَ لرؤيةِ الْمجتمعِ ورأْيهِ وقواعدِه الَّتي تقومُ السُّلطةُ بتحويلِها إِلى قوانينَ مسلَّطةٍ على رقبةِ الْإنسانِ.
تبدأُ سيطرةُ الدَّولةِ الْمستبِدَّةِ على الْفردِ بتحديدِ ما يلبسُهُ وما لا يلبسُهُ؛ بدءًا بتحديدِ ما يُمكنُ وما لا يُمكنُ كشفُهُ، وانتهاءً بوضعِ زيٍّ موحَّدٍ لكلِّ الْمواطنين. ولقد رأَيْنا في الصّين كيفَ أَلزمَ ماوتسي تونج الْمواطنينَ الصّينيينَ خلالَ ثورتِهِ الثَّقافيَّةِ بارتداءِ يونيفورم، وفي كوريا الشَّماليَّةِ لَمْ يكتفِ رئيسُها باقتفاءِ خطواتِهِ بَلْ إنَّهُ تمادى ليفرضَ على الْمواطنينَ حتّى تسريحةَ الشَّعرِ، وفي الدُّولِ الْإِسلاميَّةِ يفرضونَ على الْمرأَةِ الْحجابَ والنِّقابَ، وفي الدُّولِ الْإِسلاميَّةِ الْأَكثرِ تشدُّدًا يفرضونَ على الرِّجالِ الْجلبابَ الْقصيرَ وإِطلاقَ اللحيةِ وحلقَ الشاربِ.
كذلكَ تسعى النُّظمُ الْمستبدَّةُ إِلى تحديدِ نوعِ الطَّعامِ أَوِ الشَّرابِ الَّذي يستطيعُ الْفردُ تناولَهُ تحتَ مسمَّياتٍ ودعاياتٍ مختلفةٍ بحسبِ الْأَيديولوجيةِ السُّلطويَّةِ الَّتي تتبناها الدَّولةُ. فيتمُّ على سبيلِ الْمثالِ منعُ مطاعمِ ماكدونالدز أَو ستاربكس باعتبارِها ممثلةً للإِمبرياليَّةِ والرَّأْسماليَّةِ الْمتعفِّنةِ، أَو يتمُّ منعُ الْخمورِ وبعضُ أَنواعِ الطَّعامِ لأَنَّها حرامٌ ولا يجوزُ أَكلُها أَو بيعُها.
ثُمَّ يصلُ الْأَمرُ إِلى ذروتِهِ عندَما تبدأُ هذِهِ النُّظمُ في التَّدخلِ في غرفِ نومِ الْمواطنينَ، فتحدِّدُ للمواطنِ أَوِ الْمواطنةِ مع مَنْ؛ وأَينَ؛ وكيفَ؛ ولماذا يمارسُ الْفردُ الْجنسَ. فيكونُ على الْمرءِ أَنْ يمرَّ عبرَ مراحلَ كثيرةٍ ومعقَّدةٍ ومكلِّفةٍ حتّى يستطيعَ الْوصولَ إِلى السَّريرِ مع شريكِهِ ليمارسا حقَّهما الطَّبيعيَّ والْإِنسانيَّ، ويكونُ هذا في الْمجتمعاتِ الْمحافظةِ والِّدينيَّةِ الَّتي تضعُ الْعلاقاتِ الْجنسيَّةَ تحتَ مراقبةٍ شديدةٍ مِنَ الدَّولةِ ورجالِ الدِّينِ والْمجتمعِ.
على الْجانبِ الْآخر، في الْمجتمعاتِ الْأَقلِ انغلاقًا، لا تقيِّدُ الدَّولةُ الْمستبدَّةُ الْعمليَّةَ الْجنسيَّةَ، ولكن تقومُ بإِخراجِ الْعلاقةِ الْجسديَّةِ مِنْ إِطارِها الْمرتبطِ باللَّذةِ والْحصولِ على الْمتعةِ الشَّخصيَّةِ، لتحولِها إِلى أَداةٍ سياسيَّةٍ ووظيفةٍ يقومُ بِها الْفردُ لتحقيقِ هدفٍ مِنْ أَهدافِ السُّلطةِ مثل النَّصرِ على الْأَعداءِ مِنْ خلالِ التَّرفيهِ عَنْ الْجنودِ ورجالِ الدَّولةِ، أَو انجابِ ابناءٍ مخلصينَ للسُّلطةِ الْحاكمةِ. مثالٌ على ذلكَ بيوتُ الدَّعارةِ النَّازيَّةُ الَّتي افتتحَها هتلر في الدُّولِ الَّتي احتلَّها مِنَ أَجلِ التَّرفيهِ عَنْ الْجنودِ الْمسافرينَ أَوِ الْعائدينَ مِنَ الْجبهةِ، حيثُ أُجبِرَتْ 34,140 امرأَة أَوروبيَّة على الْعملِ في هذِهِ الْبيوتِ.
وهكذا، إِذا كانَ الْمجتمعِ منغلقًا سعَتِ السُّلطةُ إِلى التَّحكُّمِ في الجسدِ بتقنينِ هذا الانغلاقِ والتَّأكُّدِ مِنْ استمرارِه، وإِذا كانَ الْمجتمعُ منفتحًا سعَتْ إِلى السَّيطرةِ على هذا الانفتاحِ واخضاعِهِ لتحقيقِ أَهدافِها ومصالحِها الْخاصَّةِ.
ولا يتوقَّفُ الطَّاغيةُ عندَ حدِّ السَّيطرةِ على جسدِ الْفردِ، بَلْ يسعى دائمًا لانتهاكِهِ للتَّأكيدِ على معنى امتلاكِ الدَّولةِ لَهُ وحقِّها في التَّصرُّفِ فيهِ كما تشاءُ. فترى أَدواتِ الْقمعِ السُّلطويَّةِ تتَّجهُ دائمًا للعقابِ الْجسديِّ تجاه كلِّ مَنْ يخطئُ أَو يعارضُ أَو يخرجُ عَنْ الْقالبِ الْمحدَّدِ لَهُ. ويتدرَّجُ الانتهاكُ الْجسديُّ مِنْ جانبِ أَدواتِ السُّلطةِ مِن انتهاكِ الْحياةِ الشَّخصيَّةِ للإِنسانِ عَنْ طريقِ نشرِ صورٍ أَو فيديوهاتٍ لَهُ أَثناءَ ممارستِهِ للجنسِ؛ أَو صفعةٍ على وجهِ مواطنٍ أَو مواطنةٍ في الشَّارعِ، حتّى يصلَ إِلى حدِّ التَّعذيبِ الْممنهجِ داخلَ أَماكنِ الاحتجازِ والَّتي تتراوحُ بينَ الْجلدِ والصَّعقِ بالْكهرباءِ والاغتصابِ الْجنسيِّ وقَدْ تنتهي بالْقتلِ. ويأتي في نفسِ الْإِطارِ، تطبيقُ عقوباتٍ بدنيَّةٍ على جرائمَ معيَّنةٍ.
ويتصاعدُ الْأَمرُ ليتحوَّلَ الانتهاكُ الْجسديُّ مِنْ عملٍ حكوميٍّ حصريٍّ ليصبحَ سلوكًا متبادلًا بينَ الْمواطنينَ تسمحُ بِهِ السُّلطةُ مِنْ خلالِ التَّراخي الْأَمنيِّ وعدمِ إِنفاذِ الْقانونِ، وهوَ انتهاكٌ يبدأُ بالتَّشابكِ بالْأَيدي لأَتفهِ سببٍ وينتهي بالتَّحرُّشِ الْجنسيِّ في الشَّوارعِ والْمواصلاتِ تحتَ سمعِ وبصرِ أَجهزةِ الْأَمنِ الَّتي كثيرًا ما تقفُ موقفَ الْمتفرِّجِ مِنْ عراكٍ بينَ مواطنينِ أَو تحرُّشِ السَّفلةِ بالْبناتِ والنِّساءِ في الشَّوارعِ، بَلْ وفي بعضِ الْأَحيانِ يُشاركُ رجالُ السُّلطةِ في عمليّات التَّحرُّشِ.
وهكذا تسحقُ النُّظمُ الْمستبدَّةُ بكلِّ أَشكالِها الدِّينيَّةِ والْعسكريَّةِ والْأَيديولوجيَّةِ أَجسادَ الْمواطنينَ بالسَّيطرةِ تارةً وبالْانتهاكِ تارةً أُخرى، فإِذا شعرَ الْإِنسانُ أَنَّهُ لا يمتلكُ حتّى جسده تأَكَّدَ لديْهِ الشُّعورُ بأَنَّهُ لا يمتلكُ أَيَّ شيءٍ آخرَ على وجهِ الْأَرضِ، وأَهمّها الْوطن الَّذي يعيشُ فيهِ، ويصبحُ أَقصى طموحاتِهِ أَنْ يحقِّقَ نصرًا في سريرٍ، أَوْ يرتدي في الْخفاءِ ما هوَ ممنوعٌ، أَو يأْكلُ ويشربُ ممَّا هوَ محرَّمٌ، أَو يرقصُ في سردابٍ بعيدٍ عَنِ الْأَعينِ.
لهذا فمقاومةُ الاستبدادِ والطُّغيانِ لا تتحقَّقُ فقط بمظاهرةٍ أَوْ إِضرابٍ، ولكن أَيضًا بتحريرِ الْجسدِ مِنْ كلِّ سلطةٍ سياسيَّةٍ أَو دينيَّةٍ أَو مجتمعيَّةٍ، ومقاومةِ كلِّ انتهاكٍ لَهُ سواءً مِنْ ممثلي السُّلطةِ أَوِ الْمواطنينَ الْآخرين. فالْحرِّيّةُ ليسَتْ الْحرِّيّاتِ الْعامَّةَ أَوِ السِّياسيَّةَ فقط، ولكن الْحرِّيّاتُ الشَّخصيَّةُ هيَ قلبُ الْحرِّيَاتِ؛ حرية الاقتصاد والاعتقاد والرأى والتعبير والجسد. فهذِهِ الْحرِّيَّاتُ هيَ الَّتي تصنعُ الْحرِّيَّاتِ الْعامَّةَ، والْحرِّيّاتُ السِّياسيَّةُ هيَ الَّتي تعزِّزُ الْحرِّيّاتِ الشَّخصيَّةَ.
ارقصوا يهتزُّ عرشَ الطّاغيةِ!
