الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

الجزء 7

الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

أصنام في الأرض وأصنام في السماء

يسخر أتباع بعض الديانات ويستهزئون من أتباع ديانات أخرى، لأنهم بزعمهم يعبدون أصناما لاتضر ولاتنفع.
ورغم أن المقدسين لتلك الأصنام والتماثيل المنحوتة، لا يعتقدون أنها هي التي تضر أو تنفع، أو تميت وتحيي… وإنما يتقربون بها لصنم آخر غير مرئي موجود في السماء أو في عالم آخر.
إلا أن الساخرين منهم يرونهم بلاعقل، ضالين أشرارا… فقط لأنهم نحتو ملامح وقسمات معبودهم وشكلوها من الطين أو قدُّوها من الصخر أو صَبُّوها من المعدن…
وينسى هؤلاء الساخرون، أنهم لايختلفون عن أولئك المساكين في شيء، لأنهم أيضا نحتو أصنامهم السماوية وشكلوها بما تهوى أنفسهم.
لقد نحت هؤلاء لأصنامهم صفات عديدة، وكانت مادة النحت هي خيالهم ورغباتهم، وصنعوا آلهة متعددة بصفات خارقة منحوتة، الفرق فقط أنهم لم يضعوا أصنامهم داخل بيوتهم أو في ساحات مدنهم وفي معابدهم.
لقد عمد هؤلاء إلى الكون الفسيح، ونثروا هناك أصنامهم المعنوية المنحوتة بالخيال، وجعلوها بعيدة المنال.
وفي النهاية هي لا تختلف أبدا عن الأصنام الأرضية، سوى في أنها بعيدة لاترى، خيالية غير حقيقية، معنوية غير مادية، لكنها هي أيضا لاتنفع ولاتضر ولاتستجيب الدعاء ولاتهتم ولاتكترث…
الحقيقة أن المتدينين، لايعبدون خالق الكون، بل يعبدون صفات تخيلوها أو استنتجوها أو اقتبسوها… تارة بدافع الرغبة والحاجة، وتارة بدافع التملق والتقرب، ثم صنعوا منها صنما وعبدوه، وهي صفات لا علاقة لها بالخالق الحقيقي.
تتفق الأديان على افتراض صفات لهذا الخالق، وتتفاوت وتختلف في نوعها وعددها… لكنها في النهاية صفات بشرية، قام البشر بإسقاطها على الخالق الذي تخيلوه، أو اخترعوا له صفات بدافع الرغبة في الخلود، والخوف من الموت، وتحقيق العدالة، والرغبة في الانتقام، والحاجة إلى الحنان والاحتضان والمواساة…
فقد الناس أقاربهم وأحبابهم، فلم يستوعبوا ذلك، ورغبوا بشدة في رؤيتهم مجددا، وخافوا على أنفسهم أيضا من الاندثار والفناء والذهاب إلى العدم، واحتاجوا لمن يواسيهم، ويرفع عنهم الظلم، ومنوا أنفسهم بالانتقام والانتصار، وبالاجتماع بأحبابهم… فراحوا يضعون صفات لخالقهم، تناسب أمانيهم ورغباتهم، وصنعوا خالقا يحتضنهم ويواسيهم ويمسح دموعهم ويأخذ بأيديهم ويجمعهم بأقاربهم… ويغضب وينتقم من أعدائهم ويأخذ بثأرهم، وعاشوا سعداء في ذلك الحلم الوردي، يزمجرون في وجه كل من يحاول أن يوقظهم منه، ويكشرون ويظهرون أنيابهم ومخالبهم أو يجردون سيوفهم، وأضعف الإيمان أن يصموا آذانهم، كي لا يسمعوا ما يكدر صفوهم.
وإن مما يكدر صفوهم ويقض مضجعهم، أن تلك الصفات المتخيلة والمخترعة، وذلك الإسقاط للصفات البشرية، كعطف الأب وحنان الأم، وعدل الحاكم العادل… على الإله الذي اخترعوه. تتهاوى وتتساقط وينفرط عقدها وتصطدم بصخرة الواقع المرير.
فتسقط صفة العطف والرحمة، أمام امتحان المصائب التي تهوي على رؤوس الضعفاء من البشر والحيوانات.
وبنفس الطريقة تسقط صفة العدالة والحكمة والقدرة والعلم والعظمة… أو على الأقل تتهاوى مثالية تلك الصفات التي وضعها البشر.
حين ترى الشرور في العالم بكل أصنافها، حين ترى الكوارث الطبيعية وضحاياها، والحروب وضحاياها، والموت الذي يسلب الأطفال الصغار من يرعاهم ويحتضنهم، فيقذف بهم الخالق إلى المجهول، أو يصيب الأطفال الرضع بالأمراض الخطيرة، فيقطع أكباد وأفئدة آبائهم من الحسرة…
لا شك أنك ستعيد النظر في تلك الصفات كلها، وستفهم أن البشر وضع سيناريو جميل، ورسم صورة وردية لأب أو أم ضخمين جدا، وسماهما إلها.
كل هذه المآزق التي وقعت فيها هذه الصفات المتخيلة، وهذه الإشكاليات والاعتراضات… وجد لها المتدين حلولا ترقيعية، تبقيه في حلمه الوردي، وتورط إلهه أكثر فأكثر، في مستنقع العبثية واللا منطق.
الحكمة هي الوصفة السحرية عند المتدين، لكي ينقذ ما يمكن إنقاذه، إنها صفة أخرى “جوكر” يلصقها بالإله، حين يعجز عن الإجابة عن الإشكاليات التي نتجت عن اختراع صفات للخالق هو منها بريء.
فهو يسمح بالمتناقضات لحكمة، ويقتل الأبرياء لحكمة، ويخلق الناس ويمتحنهم وهو يعرف مسبقا نتيجة اختبارهم لحكمة، وهو يخلق آخرين ليعذبهم، وهو يعرف أنهم سيخطئون، وهو الذي جعل فيهم خاصية الخطأ، ومع ذلك يتركهم يخطئون، ليعذبهم.
وهو يعذب البشر إلى ما لانهاية، لأنهم اقترفوا بعض الأخطاء لمدة خمسين أو ستين سنة، يفعل ذلك لحكمة أيضا.
هذه الحكمة هي اختراع بشري، لسد الثغرات والفجوات والتناقضات، التي يراها كل الناس، في صفات مثل العدل والرحمة والرأفة…
وقد يجتهد رجال الدين، في وضع علوم وفلسفات وقواعد ومقولات… لرأب هذا الصدع، وترقيع هذا الرتق، كالقضاء والقدر وخلق أفعال العباد وغيرها من مباحث اللاهوت وعلم الكلام، والغريب أنهم لا يتفقون حولها، فلا تكاد تخرج منها بفائدة، ليتضح أن الأمر يتعلق بترقيعات، هدفها الإبقاء على صورة الإله المتخيل، في أذهان الأتباع، الذين يلعبون أدوار الكومبارس في حلم وردي، لا أحد يريد أن يوقظ الناس منه.
إن الناس كما قلت في البداية، لا يعبدون خالقا، بل يعبدون صفات هم من وضعها، لذلك ستجد أن الصراع بين الأديان، وبين الطوائف داخل الدين الواحد، حول صفات هذا الخالق.
إن أكبر الصراعات بين الطوائف والمذاهب والأديان، هي التي وقعت بسبب صفات هذا الخالق، كل مجموعة تريد أن تنحت إلها\صنما، بصفات معينة، بين المسيحية واليهودية، هناك صراع حول صفات إله العهد القديم وإله العهد الجديد، وداخل المسيحية كان هناك صراع حول طبيعة الإله الثالوث، والأقانيم الثلاثة، وبين المسيحية والإسلام، نقاش حول هل الإله يلد وهل يتحول إلى بشر وهل يصلب… وداخل الإسلام هناك صراع على أشده بدأ منذ قرون ولم ولن ينته، حول الأسماء والصفات، التي تعتبر أهم مباحث العقيدة، وثالث ضلع في ثالوث التوحيد، بعد توحيد الربوبية والألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات.
والخالق في الديانات الإبراهيمية، خلق البشر على صفته كشبهه، أما الآلهة في ديانات كثيرة، فهي إما كالبشر، أو كالحيوانات، أو خليط منهما.
بمعنى أن البشر، صنع خالقا، بما يسمح به خياله، وبما تتيحه أدوات التفكير والتأمل لديه.
وقطعا الخالق الحقيقي، لا نستطيع تخيله ولا تصوره، ولا معرفة كنهه ولا صفاته، إن ما نعرفه عن الخالق، بعيدا عن قصص وحكايات الأديان. أنه خالق فقط، ومن المؤكد أن له صفات لا محدودة، لكنها لا تنتمي لعالمنا، ولا يمكننا معرفتها ولا تصورها، لكنها ليست تلك الصفات التي وضعتها الأديان، لأن الواقع يخالفها ويعارضها وينقضها.
إن هذا الخالق لا يهتم بذلك الطفل الرضيع وبحاجياته وآلامه، إن أصابه ألم أو مغص، وهو لا يعرف حتى كيف يعبر عن ذلك، ولا لماذا أصابه ذلك الألم.
ليس من مهام الخالق، أن يسمع امرأة مسنة في كوخ معزول، وهي تئن من الجوع أو البرد، لذلك تموت العجائز نساء ورجالا، والنساء الحوامل، في ظروف صعبة قاسية، كما تموت بقرة في الحظيرة، أو غزالة في الغابة، نتيجة قساوة الظروف الطبيعية، أو نتيجة وقوعها فريسة لحيوان آخر، اقتضت حكمة الخالق أن يجعل غذاءه حيوانا آخر، فيموت ويترك صغارا له، ربما يموتون من الجوع في نفس اليوم، طبعا كل ذلك ينسف سلسلة من الصفات مرتبطة ببعضها، اخترعها البشر، فيستعينون بالحكمة، التي تزيد الطين بلة.
الخالق لن يتتبع كل حالة وكل فرد وكل إنسان وكل مخلوق، لذلك لم تشملك رحمته المدعاة، حين احتجتها، ولم تجد عدالته المفتراة، حين وقعت ضحية للظلم.
لماذا استنتج صناع الأديان، صفات إيجابية للخالق، انطلاقا من ملاحظاتهم ومشاهداتهم، ولم يستنتجوا له بنفس المنطق صفات سلبية؟
أليس الخالق المتخيل، وإلههم المزيف، فاشل عابث جاهل متآمر ظالم متناقض أيضا، وكلها صفات لها آثار في عالمنا؟
إنه التملق والخوف من العقاب، هو الذي يجعل هؤلاء الدجاجلة يحجمون عن نسبة الصفات السلبية للخالق، معتقدين أنه يتصرف مثل البشر، ويغضب وتثور ثائرته إن وصفه إنسان بأنه فاشل أو عابث…
وإلا فبأي قواعد ومعايير وضوابط، يستنتجون الصفات الإيجابية بالعقل ولا يستنتجون الصفات السلبية الواضحة آثارها على الإنسان والكائنات الحية والطبيعة؟
منطق بشري إذن، قاصر ساذج متملق، هو الذي يصنع تلك الصفات، وينمقها ويزوقها ويبالغ فيها، كما يبالغ متملق في مدح سلطان من السلاطين.
من المؤكد أنك فقدت عزيزا أو قريبا وأنت في أمس الحاجة إليه، وتسبب حادث ما في حرمانك من فرصة لا تعوض، فهل خرج لك الخالق في يوم من الأيام، من قمقم علاء الدين، وقال لك “شبيك لبيك” خالقك الرحيم الحكيم العدل… بين يديك؟
أكيد لم يحصل ذلك، وإن حصل مرة واحدة أو مرتين أو عشرة، فهو لم يحصل مئات المرات، أقصد أن تتيسر بعض مشاكلك، وليس أن يكلمك الخالق شخصيا، فهذا لم ولن يحدث بطبيعة الحال.
إذن الخالق عنده اهتمامات أخرى، وصفات أخرى لامحدودة لا نعرفها ولا تنتمي لعالمنا.
وهو قطعا لا يتصرف بمنطق الأب الرؤوف والأم الحنون والحاكم العادل، وأنا وأنت وغيرنا يعرف ذلك جيدا، واختبره ووجده صحيحا، لكن يوجد بيننا من يحب الترقيع، ليكمل حلمه الجميل، ولا يكسر صنمه المنحوت بصفات بشرية متخيلة.

يتبع …