الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

الجزء 5

الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

الخالق المهندس والخالق الميكانيكي وخرافة الدعاء

الذي علمناه من خلال كتابك المنظور، والشفرات التي تركتها لنا، أنك وضعت قوانين للكون والحياة، وهي لا تتخلف نهائيا، وقد قضي الأمر، بعد أن ضغطتَ زر تشغيل هذا الكون الذي صنعته بإحكام، ولن تعود في كل مرة لإصلاح أمر، أو تعديله، أو استدراكه، فتخل بقوانينك وتغيرها في كل مرة.
هذا الذي نراه في كل ما حولنا.
الكون بكواكبه ونجومه، وأرضنا بدورانها وتعاقب الليل والنهار عليها، والمد والجزر، وقوانين الطفو والجاذبية وتمدد المعادن، وبقاء الأصلح، والمرض والموت والحياة ونجاح المُجِد، وفشل المتكاسل، وتخلف المتخلف، وموت من وقعت عليه مسببات الموت كائنا من كان، ووقوع الكوارث والأمراض حين تقع أسبابها…
لكن الإله الذي يخبرنا به مخترعو الأديان، يتصرف بشكل غريب جدا.
إله يتدخل في كل لحظة بحسب الحاجة والطلب، ويغير قراراته وقوانينه التي سطرها في لوحه المحفوظ، حتى أنه كتب ذلك في لوح بقلم ودواة، إله لازال يستعمل القلم والدواة، في الوقت الذي وصل البشر لقلم الحبر والقلم الجاف ولوحة المفاتيح والقلم الرقمي… ولم يخبرنا هذا الإله هل يستعمل الممحاة أيضا، لكي يمحو قرارا بعد أن يأتيه دعاء من هنا أو هناك، ثم يغيره أو يعدله أم لا؟
إله الأديان بعد أن كتب كل شيء، وفرق الأرزاق، وكتب على الناس شقي أم سعيد، وحدد آجالهم، وهل سيدخلون الجنة أم بحيرة الكبريت.
بعد أن كتب ذلك كله، وانتهى منه، يطلب من الناس أن يدعوه ويستمطروا رحماته، ويستعجلوا تدخلاته.
والمؤمن يدعو لكي يغير الله قراره الذي كتبه منذ الأزل، يدعو المؤمن ويدعو لكي يتراجع الإله عن قرار اتخذه، يدعو ليساعد إلهه على اتخاذ القرار الصائب، يدعو معتقدا أن الدعاء سيغير النتائج أو المصائر، يدعو دائما وأبدا…
لذلك، الطالب حتى إن درس وكد واجتهد، فهو يدعو، كأن الدعاء يحتسب في التنقيط أثناء التصحيحات، ومن لم ينجز مادة الدعاء فسوف يرسب.
أما الطالب الكسول فإنه يدعو أيضا لكي تحدث معجزة وينجح.
ويدعو المؤمنون، لكي يتدخل الإله ويقتل أعداءهم.
وتدعو المرأة لتتزوج أو لتحبل أو لتتطلق، ويدعو آخر لكي يتوظف، وآخر ليشفى، أو يدعو على آخر ليمرض أو يموت…
جعلوا الإله خادما، يتحرك هنا وهناك ليلبي دعواتهم، وفي كل مرة يرجع للوحه المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء، ليمحو ويعيد الكتابة، ويعدل ويصحح، يدعوه هذا ليشفيه، وما إن يتحرك الإله ليجيب الدعاء، حتى يدعوه آخر ليميت نفس الشخص المريض.. فماذا سيفعل هذا الإله، وكيف سيتصرف أمام سلاح الدعاء هذا؟
وتوجد صيغ غريبة للدعاء، كقولهم لخالقهم، عليك بفلان، وهي صيغة بذيئة تنضح بقلة الأدب، تتعامل مع الخالق كأنه خادم بل كأنه كلب، يحرضه صاحبه للانقضاض بعبارة “عليك به”. فأي سوء أدب هذا!
هل تعلم ماذا يفعل إلههم، أمام هذا العبث، وهذا الجنون الذي اخترعه له مخترعوا أديانهم؟
إنه يتجاهلهم ولا يستجيب لأي دعوة من دعواتهم، لم يحدث أن غير قراراته واستجاب لدعواتهم أبدا.
قد يسقط الواحد منهم عشرات المرات في مباريات التوظيف، وهو يدعو إلهه أناء الليل وأطراف النهار لينجحه، وفي المرة المائة، حين يجتهد ويجيب عن الأسئلة، ويتم اختياره، يعتقد أن ذلك حصل بسبب الدعاء.
لم ينتبه أنه دعا عشرات المرات ولم يستجب له إلهه، لكنه حين نجح بكده واجتهاده، أو بمحض الحظ والصدفة، ينسب ذلك للدعاء، وهكذا يتم توريث هذه الخرافة المضحكة للأجيال اللاحقة.
لا ينتبه المؤمنون أن هذا الإله الذي يطلب منهم الدعاء ليرفع عنهم الضر والبلاء، هو الذي يوقع بهم الضر والبلاء، فيضرهم ويعذبهم ويطلب منهم أن يدعوه ليرفعه عنهم، لا ينتبه المؤمن أنه صنع إلها ساديا يعذبه ويطلب منه أن يدعوه ليرفع عنه العذاب.
اعتقاد المؤمن أن إلهه يتدخل في كل مرة ليعدل قراراته ويراجعها، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة يوميا، وليس عن طريق قوانين وضعها وتركها تسير كما برمجها أول مرة.
هذا الاعتقاد يجعله أحيانا يلوم هذا الإله، حتى وإن قاوم ذلك الشعور.
فهو حين يرى كارثة طبيعية، قتلت الأبرياء ودمرت المنازل والمحاصيل، أو عملية إرهابية أودت بحياة الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، أو موت رجل بحادثة مريعة، أو حربا تدمر الأخضر واليابس، أو مرضا يودي بحياة رب أسرة ويتركها بدون معيل… كل هذه الفظاعات تجعل عقله يتوقف.
كيف لإلهي الرحيم أن يسمح بهذا؟
فيجيب من تلقاء نفسه، إنه يفعل ذلك لحكمة.
تصور خرافي وسؤال خرافي وجواب خرافي، ظلمات بعضها فوق بعض.
ولو تصور أن هذا الكون يسير وفق نظام سُطِّر وانتهى، وأنه حين تحدُث أسباب ما، تترتب عليها النتائج الحتمية، ولا مجال للعاطفة، والخالق لا يغير قوانينه في كل لحظة، مثل ميكانيكي يصلح سيارته القديمة المتهالكة، بعد كل مائة متر سير، أو سباك يصلح تسريبات المواسير.
لا يتصور المؤمن أن الطفل مات لأنه تصادف مع حادثة مميتة، والآخر مات لأنه كان في المكان والزمان غير المناسبين، والآخر فاز بأموال طائلة، لأنه اختار رقما رابحا بالصدفة، والكون لا يمشي بالعاطفة، وقوانينه لا تتغير تعاطفا مع البشر أو مع دياناتهم أو معتقداتهم أو لأنهم مظلومون أو محتاجون… لا شيء من ذلك يحدث أبدا.
القوانين نفسها تسري على المؤمن وغير المؤمن والفقير والغني والمحتاج وغير المحتاج واليتيم والمريض والصغير والقوي والضعيف…
والخالق لا يتدخل ليعدل أي شيء من أجل سواد عيون هذا أو ذاك.
وأختم هذا الفصل بدعاء للخالق المتخيل، إله الأديان، صنم السماء الافتراضي، أقترحه على المؤمنين به، أسميته: “دعاء الموقن بعدم الإجابة”.
إلهي إني دعوتك منذ وعيت على نفسي، ولم أتلق ردا أبدا.
إلهي دعوتك في أشد الأوقات حاجة إليك، رغبة ورهبة إليك، وتركتني وحيدا.
إلهي كنتُ فقيرا محتاجا، فلم تسندني،
وكنت خائفا في مرات كثيرة، فلم تهدئ روعي،
وكنت في أمس الحاجة لأحباب كثيرين فأخذتهم مني،
وإني كلما تمسكت بشيء أُخِذ مني،
وكلما طلبت شيئا مُنِع عني،
وكلما هربت من مشكل تسلط علي،
وكلما استخرتك تجاهلتني.
فإن كنت تختبرني فقد تعبت،
وإن كنت تدخر لي هذه الدعوات لليوم الآخر، فأنا ما دعوت إلا لحاجتي لها الآن.
وإن كنت تريد أن تصرف بها عني مكروها، فما الذي يمنعك من صرف المكروهات عني، مع الاستجابة لدعواتي؟
ألستَ أنت الكريم الرحيم المنان، صاحب العطاء والخزائن؟ فهل يعجزك أن تلبي طلبات لا تكاد تُذكر؟
فاللهم هذا آخر دعاء، أدعوه وأنا موقن بعدم الإجابة.
وهذا آخر رجاء أرجوه منك، وقد استبدت بي الهموم والكآبة.
فإني أدعوك وأخاطبك وأترجاك، دعاء المضطر، ومخاطبة المحتاج، ورجاء المعوز، لكن حالي كمن يخاطب صنما من الأصنام وجمادا من الجمادات والأوثان، لا يسمع ولا يرى ولا يضر ولا ينفع، ولايهتم لأمر إنسان أو حيوان.