الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

الجزء 2

الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

سفر الخروج من الخرافة

آمنت بالخالق المتخيل إله الأديان، وعبدته بكل إخلاص، إلى أن بلغت الأربعين من عمري، لقد كان خالقا وإلها وأبا وأما وحضنا وملجأً وملاذا…
دافعت عن دينه ونافحت وبينت، وناضلت وضحيت وأديت الثمن في سبيل ذلك.

لم أكن أنتظر جزاء ولا شكورا، فقد فعلت ما فعلت، بدافع التصديق والإيمان الأعمى، ومع ذلك كنت أنتظر تدخلات إلهية كما وعد، لأن ينصر المظلوم، ويساعد المحتاج، وينتقم من المعتدي والظالم، ويعيد الحقوق لأصحابها، ويقيم نظاما سياسيا، يتساوى فيه البشر، ويأخذ كل ذي حق حقه، وينتشر العدل…

لم يخامرني الشك في ما كنت أعتقده وأتبناه، فقد اعتقدت وآمنت عن اطلاع، استدللت على معتقداتي وإيماني من داخل الدين نفسه، وما يتيحه من معارف وقواعد وتفسيرات وتقريرات… دون أن أعمل عقلي فيها، فهكذا أمرني الدين.

وبمجرد أن أعملت عقلي، وفكرت وتأملت وتدبرت… بدأ ذلك البناء العظيم يتهاوى، لقد تهاوى على مراحل، وكل مرحلة كانت تهوي بأسرع من سابقتها، بل أذكر أن حجرا ربما كان مهما جدا في ذلك البناء، بمجرد أن زحزحته من مكانه، تداعى الصرح كاملا بشكل سريع ومخيف.
عندما تهاوى الصرح، شعرت بخوف كبير، لازلت أسمع دقات قلبي المتسارعة، لدرجة كنت أحس أنه سينفجر داخل صدري.
في أول يومين لم أستطع النوم، بكيت بشدة، كما بكيت حين فقدت والدتي وأنا طفل صغير.

لم أبك بتلك المرارة إلا مرتين، حين فقدت والدتي، وحين فقدت إيماني بالخالق المتخيل ودينه المتوهم.
جاهدت لأبقي على خيوط تصلني به، وتبقيني على ارتباط به، لكنها كانت تتقطع تلقائيا لوحدها، وتبعدني عنه شيئا فشيئا.
حاولت أن أوهم نفسي، بأن المشكلة تكمن في هذه الزاوية من النظر أو تلك، وفي هذه الجزئية أو تلك، أو في هذا التفسير أو في ذلك المذهب، أو تلك القراءة…

كانت محاولات مستميتة، للإبقاء على إيماني بأي طريقة، ومع كل محاولة، كان عقلي مثل سكين حادة، تقطع كل تلك الخيوط والوشائج، فتتقطع معها نياط قلبي، فأحس بأنني أسقط في المجهول.

دامت المعاناة أياما وأسابيع، وكنت كمن ينتزع شجرة من تربتها، وهي تتشبث عن طريق جذورها المتفرعة والمتشعبة السطحية والعميقة بمكانها، فكانت بعضها تنجو وبعضها تكسر وأخرى تتمزق، وتحتفظ بعضها بكتل من التراب والطين للذكرى، لكن يدا تنفضها بقوة، وتضربها بالأرض بعنف، لتتخلص من تلك البقايا أيضا.

إن عبارة التمزق لا تفي بالغرض في تصوير ما أحسست به في تلك الفترة، وحتى إن أضفت إليها عبارات وكلمات أخرى كالمعاناة والضياع والألم واليتم… فلن تستطيع تصوير ما عشته آنذاك، من ألم وحزن. لم يكن الأمر سهلا نهائيا. لقد كان من أصعب التجارب التي مررت بها، من أصعبها على الإطلاق.

تصور أن طفلا يعيش معتقدا أن له أبوين، وفي لحظة يتخليان عنه ويطردانه، ليكتشف أنهما ليسا أبواه، وأن أبويه غير معروفين، ولا أحد يعرف عنهما أي شيء، وبعد أن كان يعول ويعتمد على والديه في كل شيء، وبعد أن كان يحبهما ويجتهد في تلبية طلباتهما، سيجد نفسه في العراء معتمدا على نفسه، وقد تقطعت به السبل، كما تقطعت نياط فؤاده وتمزقت مشاعره، وهو لايزال صغيرا بعد.

هذا تماما ما أحسست به، اليتم والصدمة والضياع والتعرض للخداع.
استغرق الأمر سنة كاملة، لأتخلص من آثار الصدمة، ولأتقبل أنني يتيم، وأن ذلك الإله الأب، لم يكن إلا خدعة كبيرة، فلا يده ستحنو عليك، ولا عينه سترعاك، ولا رحمته ستشملك، ولا وعوده ستتحقق لا هنا ولا في أي عالم آخر.

بعد سنة استعدت عافيتي، وتقبلت يتمي، وطويت صفحة الغيبيات والخرافات والأساطير… وأحسست براحة نفسية لم أحسها حتى في أكثر اللحظات الإيمانية التي عشتها.

تخلصت من الخالق المتخيل، صاحب الصفات الكثيرة المتناقضة والتي لا أثر لها في حياة البشر، بل وخلَّصت الخالق من صفاته المتخيلة التي صنعها له البشر وجردته منها، فوصلت للخالق الحقيقي، المجهول الصفات المجهول الماهية، والذي يختلف تماما عن الصورة التي رسمتها له الأديان كلها.

إن شكي في المعتقدات والأساطير والخرافات والأديان، ثم تخلصي منها، لا يعني أنني تمردت على الخالق، أو غضبت منه، أو لمته أو نقمت عليه، فضلا أن أكون قد أنكرت وجوده، كلا وأبدا.

أنا أومن بأن لهذا الكون موجدا وخالقا، لا علاقة له بالصورة التي رسمتها له الأديان، خالق لا علاقة له بالرب وبالإله وبالمعبود الذي صنعته الأديان، خالق لم يرسل رسلا ولم ينزل كتبا ولم يأمر بشيء ولم يفضل أحدا على آخر ولم يشعل حروبا ولم يشرع شرائع.