الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

الجزء 1

الخالق الحقيقي و الخالق المتخيل

فاتحة الكتاب

مررت بمرحلة شك عاصفة عنيفة، وبقيت مدة من الزمن، أبحث وأناقش وأحاور وأرقع، متشبثا بأي خيط يبقيني مؤمنا بالدين، ممسكا به بقوة، عاضا عليه بالنواجذ، كلما انهار تفسير قفزت للآخر، وكلما ظهر عوار مذهب وليت وجهي نحو غيره، وكلما فشلت مدرسة من المدارس، بحثت عن صفاء وصحة الدين في باقي المدارس والتيارات.

لم أكن مستعدا نهائيا لأن أفقد إيماني، لأنه كان ملاذي وراحتي ودوائي وأملي ونشوتي وخمري…
فهو الكتاب الذي يجيب عن كل أسئلتي.
لايهم أن تكون صحيحة، ولا يهم إن لم يكن بإمكاني التحقق منها، يكفي أنها في كتابي المقدس.
وهو السرير والحضن الذي ألوذ به عندما أتعب.
وهو الأمل الذي يظهر مع بصيص الضوء في آخر النفق، حتى لو كان ضوءا خادعا وسرابا مخادعا.

لكن كل الوشائج تقطعت وكل الحبال انفلتت الواحد تلو الآخر، وانهار البناء لبنة لبنة، كما تتساقط أحجار الدومينو. وعشت في هم وغم، لأنني فقدت السند والمرجع والسبب والعلة والهدف والمنطلق والمبتغى والمرتكز والأصل والأساس والمعنى…

ثم بعد مدة تبدد الظلام، وانقشعت الغيوم، وانجلت الغشاوة، ورأيت الكثير من الأمور على حقيقتها، واتضح أن الكثير من المخاوف، ما هي إلا أوهام وأشباح وأطياف، بمجرد أن أضاء نور العقل تبددت، وبمجرد أن تدفق سيل الفكر انجرفت.
خاصة بعد أن خضت تجربة بحث كانت جديدة علي، تخلصت فيها من كل مسلماتي ويقينياتي وقواعدي التي تلقنتها وكبرت معها وبُرمِجت عليها.
وجدتني أعيد البناء من جديد، وكنت محتاجا للأدوات ولمادة البناء.
تحولت رحلة الشك، إلى رحلة بحث وتفكير، فتحولت المعاناة إلى متعة، والألم إلى نشوة، والأرق إلى شغف ولذة.

كان علي أن أبحث في كل ما له علاقة بنشأة الكون، وبداية الحياة، وتطور الكائنات، وبداية اللغة وتطورها، وبداية الكتابة والتدوين، والأساطير والمعتقدات والأديان، بدايتها وتطورها، والمقارنة بينها، وتاريخ الحضارات وما يرتبط بها من آثار ونقوش ومخطوطات… وأكتشف مناهج جديدة للبحث، وقواعد صارمة للمقارنة والتمحيص…

كان كل ذلك مختلفا تماما عن قواعد قبول الروايات كما تعلمتها، وسرد التاريخ بطريقة الأحاجي، وتقديس النصوص والأشخاص، واشتراط الإيمان والتسليم والانقياد، للوصول للنتائج المسطرة مسبقا.

اكتشفت عوالم أخرى، بعد أن خرجت من قوقعتي، وكان ذلك النزر اليسير الذي اطلعت عليه، هو المفتاح الذي حررني، فشعرت براحة غامرة، وأحسست بحرية عارمة، بعد أن أزيلت الجدران وانكسرت القضبان وانفكت الأغلال، وتبددت الغشاوة.

كان أول تصريح لي بما وصلت إليه من نعمة، وتجاوز المحنة، بعد حادثة الطفل ريان، الذي بقي في الجب خمسة أيام بلياليها الباردة، يئن ويستصرخ ولا من ينجده.

ورفع ملايين المؤمنين، أكف الضراعة ودعوا آناء الليل وأطراف النهار، دعاء المضطر والخائف والمكلوم والمحتاج والمنكسر… ولا من مجيب.
وأُعلن خبر الوصول إليه حيا، ففرح وهلل وكبر الملايين، لكن أبى الحزن إلا أن يشمت بهم، والألم إلا أن يسخر منهم، والغم والهم إلا أن يذلهم…

فأُعلن بعد بضع دقائق أنه توفي.
فأي عبث هذا؟
لماذا هذه المسرحيات وهذه الألاعيب؟
لماذا لايعلم الناس أنه مات من أول يوم؟
لماذا يدعون ويتضرعون ولا يأبه بهم أحد؟
لماذا يظنون أنه نجا، فيفرحون ويهللون عند خروجه، ثم بعد ذلك يصدمون بأنه مات؟
طرح الكثيرون هذه الأسئلة وغيرها، وعبروا عن حيرتهم وإحباطهم وغضبهم وألمهم…
وتساءل كثيرون لماذا هذا الإله لايستجيب؟
لماذا يختار أن يقتل طفلا بريئا بهذه البشاعة؟
لماذا يعذب والديه وأقاربه؟
لماذا يقول إنه يستجيب دعوات المضطرين المحتاجين، ثم يخلف وعده ويتنكر لكلامه؟
هل حقا خالق الكون قال ذلك؟
هل الخالق يتميز بصفات الرحمة واستجابة الدعاء وغيرها من الصفات، أم هي صفات ألصقها به البشر فقط؟
هل الخالق هو نفسه ذلك الإله الموجود في الكتب الدينية الذي يعبده الناس، أم لاعلاقة له به؟
كتبت مقالا تحدثت فيه عن تصوري للخالق، وعلاقته بإله الأديان، وهل هما نفس الكائن؟
وتحدثت عن صفات هذا الخالق، وعن الدعاء والعبادة والاستجابة…

فطالبني الكثيرون بأن أشرح وأوضح طرحي أكثر.

وطرحوا علي أسئلة كثيرة عن الوحي والنبوة والأديان والمعجزات وصفات الخالق وماذا يريد وماذا بعد الموت…

فكان الموضوع يحتاج إلى كتاب كامل، أجيب فيه عن بعض ما أستطيع الإجابة عنه، وأطرح اعتراضاتي وإشكالاتي، وأبسط فيه تصوري ورؤيتي.

فكان هذا الكتاب، الذي لا أدعي أنه هو القول الفصل، ولا أنه الجواب النهائي، ولا الحل السحري، لمشاكل وتناقضات كثيرة في الطرح الديني.

إنه بكل بساطة تأمل في هذه الأديان، وتدبر في هذه الأكوان، وتفكر في تاريخ البشرية وحاضرها وواقعها، وصلت فيه لخلاصات، هي خاصة بي في هذه المرحلة الزمنية من عمري، وقد تتغير في المقبل من أيام حياتي، لكنني أجد فيها الراحة التامة، والطمأنينة الكاملة، والانسجام العقلي والنفسي، والسلام الداخلي.

هذه ليست دعوة للناس لترك أديانهم ومعتقدات أجدادهم أبدا، فالناس يجدون الراحة في ما ورثوه، والعزاء في مانشؤوا عليه وألِفوه.

إنها ببساطة قناعاتي الشخصية، أشرحها في هذا السِّفر، وأقدم حججي وأدلتي وأجوبتي وأسئلتي واعتراضاتي وسرديتي… للذين يعتبرون أن الأمر مجرد رد فعل نفسي أو بحث عن الشهرة… فيسفهون كل من يتساءل ويهمشونه ويحاصرونه، ويحرمونه من حقه في التواجد في المجتمع والتعبير عن رأيه، هذا إن لم يعتمدوا على هذه المعتقدات التي هي محل نزاع، لتبرير قتله أو قمعه.

هي إذن ليست دعوة لترك الدين، بقدر ما هي دعوة للتعايش مع التاركين للدين، لأنهم لم يتركوه تشهيا أو جهلا أو تآمرا… بل عندهم من الأدلة والحجج والبراهين ما يستحقون عليه التقدير والاحترام لقناعتهم ورؤيتهم، وتركهم يعيشون في سلام.

الكتاب أيضا رؤية متكاملة لقضايا احتكر رجال الدين الحديث فيها، أضعها بين أيديهم، ليردوا عليها ويفندوها، ويبينوا بطلانها وتهافتها، فإذا فعلوا ذلك بالأدلة البينة الواضحة المقنعة، التي تخرس المعترض وتفحمه، فأنا مستعد للتراجع والتخلي عنها، ففي النهاية أنا لا أرغب بأن أتعذب في نار جهنم المستعرة إلى الأبد، إن كان هذا المصير حقيقيا، ولو بنسبة واحد على بليون.